الحبّ في الشعر العربي

أهل مكة حمام

وأهل المدينة قماري

وأهل جدة غزال

والطائف أهله نماري

تعتبر هذه الأغنية الشعبيّة من أكثر الأغاني السعوديّة التي تُغنّى في الأفراح والمناسبات السعيدة. كتبت كلماتها ولحّنتها المطربة والشاعرة السعوديّة توحة من مكّة المكرّمة. والجميل أنّ من يسمعها أو يغنّيها لا يرى أيّ تناقض، فالشاعرة لا تمدح أربع مدن في الوقت نفسه فحسب، بل تمدح أهاليها أو سكّانها أيضاً. كذلك لا يعتبر المستمع السعودي أنّها قصيدة أو أغنية وطنيّة، إنّما بمثابة غزل للمحبوب كالتالي :

يا بنات الرياض

يا لابسات العمايم

ارحموا هالمسكين

اللي على الباب نايم

طحت في بيركم

ارموا علي ثيابي

و الدواء عندكم

لا تحرموني شبابي

التغزّل بعناصر ورموز

يمكن القول إنّ هذه هي أحد العناصر الرئيسة والمتميّزة في الشعر العربي، حيث أنّك قد تقع في حبّ جماعة كاملة من أجل محبوب واحد. وبالتالي يكون الغزل للجميع بدون تحديد شخص واحد، وكما يُقال في المثل السائد:

"لأجل عين تكرم مدينة".

وبالنظر الى الشعر العربي سواء الجاهلي أو الحديث، نلاحظ أنّ الشعراء قد يتغزّلون بعناصر ورموز في قصائد كاملة وطويلة من غير التطرّق إلى وصف المحبوب أو من يكون. وفي مطالع المعلّقات، يصف الشاعر دائماً الأطلال والمرابع والسواقي والسهول والأودية والجبال ومساحات شاسعة من الفراغ اللامتناهي للتعبير عن العشق والهيام عبر رحلة العاشق في حياته أو يوميّاته. ولا يخلو ذلك في مراسيل الهوى مع الهواء والأمواج والسحاب والطيور المهاجرة.

قصّة جميل وبثينة في مدينة العلا

يُعرف هذا النوع من الشعر بالشعر العذري. وخلافاً للمعتقد السائد، المقصود بالعذري هنا هو قبيلة بني عذرة. وهي قبيلة سكنت وادي القرى أو مدينة العلا حيث دارت قصّة جميل وبثينة أو كما عرّف العاشق باسمها حيث يُقال أنّ هذا شعر (جميل بثينة) وكلاهما من قبيلة عذرة. وأعتقد أنّه من ذكاء اللغة العربيّة وفطنة وفصاحة العرب استخدام هذا الربط اللغوي بالمعنى المقصود حيث أصبح اسم على مسمّى. و كأنّه نوع من الدعابة اللغويّة.

ويُحكى أنّ جميل أتى إلى مرابع الإبل ليسقي إبل عشيرته، ثمّ أتت بثينة لسقاية إبل أهلها أيضاً. فنفرت إبل جميل من إبل بثينة. فنَهَر جميل بثينة لما فعلته إبلِها بإبلِه. ردّت عليه ونهَرَته لنهرِه إيّاها. في تصوّري أنّها نهَرَته لأنّه من غير المروءة والرجولة أن ينهُر المرأة، خصوصاً في مثل هذا الموقف. وبدل أن يغضب من نهرِها إيّاه، أُعجب جميل بقوّة شخصيّتها وردّها عليه وعَشِقَها. ومن هنا، بدأت قصّة من أجمل قصص الحبّ العذري في التاريخ العربي أو كما يقال ثنائيّات الحبّ قبل أكثر من ألف سنة، في زمن الدولة الأمويّة.

يقول جميل في وصف بثينة:

لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة

كأنّ أباها الظبي وأمّها المها

دهتني بودّ قاتل وهو متلفي

و كم قتلت بالودّ من ودّها دها

إنّه من الرائع استخدام روعة ومرونة وجمال اللغة العربيّة في هذه الأبيات، خصوصاً في نهايات السجع (أمّها مها وودّها دها).

معنى الحبّ واحد

قلّما ترتبط صورة العرب الذهنيّة ارتباطاً صحيحاً بالثنائي الواقع في الحبّ. إنّما يعكس واقع الأدب العربي والقصص الشعبيّة والموروث الديني غير ذلك تماماً. وأعتقد أنّ أحد أسباب هذا الفهم الخاطئ هو الارتباط العصري الحديث لمفهوم الحبّ بالعلاقة الرومانسيّة. وهذا تقليل وتحجيم مجحف لمعنى الحبّ الواسع في التراث والعقليّة العربيّة قديماً، ولكن من دون إدراك. مثلاً، عندما سُئِلَ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من أحبّ الناس إليك؟

قال : عائشة (زوجته)

فقيل له : ثمّ من ؟

قال : أبوها (أبو بكرٍ الصديق)

نرى هنا أنّ النبي لم يفرّق بين حبّه لزوجته ومعناه وحبّه لأبيها، صديقه. فمعنى الحبّ واحد ولو اختلف من هو المحبوب وشكل المحبّة.

إذا عشق تكمل مروءته

إنّ زمن العرب القديم بليله اللامتناهي وجغرافيّة مناطقه الشاسعة المليئة بالصمت والوحدة، يخلق مشاعر جيّاشة في النفس البشريّة مستوحاة من مفاهيم رمزيّة وصور تعبيريّة ومستويات من الخيال الإبداعي.

ويقول الشيخ صالح المغامسي وهو من خبراء الشعر والأدب العربي: "في القِدَم، المرأة إذا أحبّها أحد تجعله كريم الأخلاق، ليحاول أن يكون كامل الصورة في عينها. فكان بعض المربّين آنذاك يحرصون أن يغرسوا مسألة العشق في قلوب طلاّبهم. ويقول إنّه إذا عشق تكمل مروءته على اعتبار أنّه لن يقبل أن يعيش وضيعاً لأنّ المرأة لن تقبله و لا ترضى أن يكون كذلك".

واستطرد بالقول في قصّة جميلة حدثت بين ثنائيّين اجتمعا واشتهرا في نفس الزمن وهما جميل وبثينه، وتوبة ابن الحمير، عاشق الشاعرة العظيمة ليلى الأخيلية. ومن الملفت هنا أنّ شعر ليلى في عشق توبة هو الذي اشتهر خلافاً مع ما كان سائداً في قصص الحبّ والهيام، فالرجل هو الشاعر الذي يصف عشق محبوبته. وكان لهما قصّة شهيرة.

وتقول الحكاية أنّ توبة كان أقوى وأشجع من جميل في البنية ولا مقارنة بينهما. فاتّفق جميل وتوبة على المصارعة لمعرفة من الأقوى. وعندما تصارعا، كانت بثينة تنظر من أعلى التلّ، فغلب جميل توبة لأنّه لم يستطع أن يُغلب أمام من تعشقه.

أمّا اليوم في عصرنا المليء بالفرص والإمكانيّات وتسارع التغيّرات والأحداث، قد يكون من المفيد العودة إلى التاريخ لنستلهم معنى جديداً للحبّ ومناسباً لزمننا!

إقؤئي أيضاً: ماذا عن الرفاهية في ١٤٤٤ هـ؟

 

 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث