ماذا عن الرفاهية في ١٤٤٤ هـ؟

من الصعب أحياناً الكتابة عن المواضيع البسيطة مثل الرفاهية. فبالرغم من أنّ هذا المصطلح معروف للجميع إلّا أنّ معانيه تختلف باختلاف عدد الكتب والدراسات والمقالات التي كتبت عنه... فما هي أفضل زاوية ممكن أن ننظر من خلالها إلى هذا الموضوع الكبير؟ في الواقع لا أعلم... لكن في مثل هذه الحالات أجد نفسي دائماً أرجع إلى الماضي ليتسنّى لي فهم الحاضر، وكذلك نسبةً إلى عشقي لتاريخ الجزيرة العربيّة والثقافة السعوديّة، فتشكّل هذه نقطة البداية.

وقد يخطر في البال للوهلة الأولى أنّ الرفاهية تتعلّق بالأمور الماديّة، حيث أنّ أوّل ما تبادر إلى ذهني هي المجوهرات العربيّة القديمة، فشعرت بالفرح... وبالتالي أصبح الموضوع سهلاً! فتحتُ خزانة زجاجيّة مليئة بالمجوهرات الفضيّة التراثيّة القديمة وُضعت لتزيين غرفة الاستقبال لدينا، ولطالما أثارت فضولي منذ الصغر إنّما لم يكن لديّ الدافع سابقاً للتعامل مع هذا الفضول... حتّى الآن! حيث سيكون هذا المقال فرصة للبحث والتّحري والتحليل والأجمل من ذلك، التساؤل معكم!

تصوير المجوهرات الخاصّة بالكاتب: Ghadir Abdulrahman

ليست للزينة فحسب...

وبالنظر إلى هذه المجوهرات بعين التّحري، وجدت أنّ ما أنظر إليه ليس مجوهرات فعلاً، إذ إنّها لا تحتوي على جواهر في الأساس! نعم، تحتوي على أحجار كريمة ملوّنة وخرز وعناصر كريستالات شبه زجاجيّة... إنّما هل هو عقيق ؟ فيروز ؟ زبرجد؟ لا أعلم . أمّا بالنسبة إلى تصميمها، فكثير منها كبيرة وثقيلة وكأنّها دروع جميلة بأشكال هندسيّة تقليديّة لتعطي شكلاً منتظماً إنّما ليس بالضرورة رقيقاً أو ناعماً. فلاحظت أنّها أقرب إلى ما يمكن وصفه بالمربّعات والدوائر المعدنيّة! نعم ! إنّها معادن وفضّة وذهب ونحاس، وفي الكثير منها أيضاً عملات! وثمّة شيء غريب في أشكالها ووزنها الثقيل؟ وبدأت أشعر أنّها ليست للزينة فقط. ففي الماضي،كان لكلّ شيء فائدة وسبب. فهل مجوهرات هي الكلمة الصحيحة أم مصوغات مثلاً؟ إنّها فعلاً صياغة للمعادن والأحجار والعلب الصغيرة التي صمّمت لتُُلبس. ولا أعتقد أنّها صُنعت لغرض الزينة فقط، بل هي كناية عن ممتلكات المرأة قديماً وابتُكرت ليسهل حملها حيث تذهب وحمايتها من السرقة أو الضياع .

حكمة الأجداد أتت من واقع حياتهم

لو تخيّلنا المرأة البدويّة في حياتها اليوميّة، فنعلم من الصور أنّها تلبس كامل زينتها طوال الوقت. وهذا منطقي تماماً، فالحياة البدويّة فعلاً حياة ترحال وبحث عن الماء. وبالتالي إنّ لبس ثروتك معك يحقّق جميع الأهداف: حفاظاً عليها من جهة وللدلالة على المكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة من جهة أخرى. فكلّما زادت كميّة المعدن، زادت قيمة القطعة. أمّا حكمة الأجداد، فأتت فعلاً من واقع حياتهم، وبات المثل العربي القديم "زينة وخزينة" مفهوماً حرفيّاً! وأعتقد أنّ هذا هو السبب في شكل المصوغات العربيّة التقليديّة. أمّا الآن، فهل لهذا الأسلوب أو المعادلة مكان في حياتنا العصريّة؟

هل أصبحت الرفاهية في متناول اليد؟

لنطرح هذا التساؤل على أنفسنا، هل لدينا القدرة الإبداعيّة لصياغة احتياجاتنا المعيشيّة في أدوات متعدّدة الاستخدام ومستدامة و"زينة وخزينة" كما فعلوا في السابق؟ تعدّدت الآن أنواع الزينة بتعدّد صيحات الموضة والأسعار والمواد، من الريش والأقمشة إلى الذهب والألماس. أمّا تفاوت أسعار المواد، من ثمين إلى مقبول، دليل على أنّها أصبحت في متناول اليد، إنّما هل تعتبر رفاهية حينها؟ ومن ناحية الخزينة، غطّت البنوك والمحافظ الاستثماريّة وفكرة انفتاح أسواق العالم على بعضها البعض جانب حفظ الثروة من السرقات أو الضياع وضمنت تناقلها لأجيال قادمة.

ومع اكتمال الحياة الحضرية في بلادنا العربيّة، تغيّرت مفاهيم الرفاهية، إذ استُبدلت الخيمة بالقصر والإبل بالسيارة الفاخرة، والخيل بطائرة درجة أولى أو حتّى خاصّة، ورعي المواشي والترحال والبحث عن الماء بالبحث عن الاستثمار في نيويورك وهونج كونج. فأصبح الماء داخل كلّ بيت يأتي عبر تطبيق في هاتفك المحمول. وتوجهّنا بذلك إلى الراحة والاستجمام، فهل هذه هي الرفاهية في عام ٤٤٤١ هـ ؟

التوقّف عن العمل يُعتبر كسلاً، أمّا كثرته فإجهاد

في جميع الحضارات القديمة، عدم عمل المرأة واستقرارها في بيت أبيها أو زوجها دلالة على الغنى والمكانة الاجتماعيّة. فأميرات أوروبا وسيّدات المجتمع الارستقراطي كنّ يتعلّمنَ الرسم والموسيقى وتنسيق الزهور وتطريز المحارم الدقيقة البيضاء، وهي مهارات غير أساسيّة تدلّ على وقت الفراغ. وكذلك الحال في الأشعار العربيّة القديمة، فزيادة الوزن والخطوة البطيئة دلالة على الغذاء الزائد. أمّا طبقات الأقمشة الثقيلة غالية الثمن وكثرة المصوغات والمجوهرات وقلّة الحركة، فوصفها المغنّي الشعبي عبدالله فضالة عندما قال: بنت ذاك وذاك تخدمها الخدم. إنّما اليوم، عدم العمل كسل وكثرته إجهاد. وهنا أتساءل، لو استيقظت مديرة تنفيذيّة الساعة ٣ فجراً لاجتماع زوم في هونج كونج، فيما لديها اجتماع آخر الساعة ٩ مساءً لاتّخاذ قرار عند فتح أسواق نيويورك، فهل هذة رفاهية ؟ حتّى وإن كانت في قصر يخدمها الخدم كما قال الشاعر. ربّما نعم، بحيث أنّ إثبات الذات والإحساس بالنجاح شعور جميل جدّاً ومهمّ لغذاء النفس والروح. فقد تكون هذه هي الرفاهية الجديدة. لا أعلم أيضاً إنّما أدعوكم للتساؤل معي!

المعضلة تكمن في كميّة الخيارات المتاحة

ولكن، هل هذا ممكن للجميع الآن؟ وكيف؟ لقد سهّلت الثورة التكنولوجيّة والتواصل الاجتماعي العمل في شتّى المجالات والهوايات. فالوصول إلى شيء ما هو متاح وبكثرة، ولكن المعضلة تكمن في كميّة الخيارات المتاحة وقد أصبح اكتشاف النفس أصعب من ذي قبل. وأضف إلى ذلك الهوس الجماعي بالمقارنة على شبكات التواصل الاجتماعي بشتّى أنواعها. إذ أصبح السباق إلى المنافسة عملاً بحدّ ذاته. فأين الرفاه في ذلك؟ وقد أصبح النوم العميق تجارة بمئات ملايين الدولارات، سواء بالوسائد والأغطية ذات الأقمشة الثمينة أو السرير الفاخر أو حتّى التطبيقات المتوافرة للمساعدة على التأمّل والنوم... كلّ ذلك للمساعدة على الشعور بالراحة وتهدئة النفس والروح. ومع كلّ هذه الضوضاء العصريّة الفعليّة والمعنويّة، من غير المستغرب زيادة حالات الإجهاد والاكتئاب و الضغط النفسي عالميّاً، وهي أمراض العصر بلا شك .

حسناًً إذاً، هل الصحّة هي الرفاهية؟ لكن حتّى الرعاية الصحّية الآن والأدوية والمستحضرات تتفاوت في أسعارها كما التفاوت في مستويات شركات التأمين، فأين نذهب من هذه الدائرة المغلقة، أو المعادلة الصعبة؟

في الواقع لست أدري، إنّما أعتقد أنّ مفهوم الرفاهية متغيّر بتغيّر الأزمان والأماكن والبشر. فالاستماع إلى موسيقى جميلة، أو تناول وجبة منزليّة مع العائلة، أو ارتداء ثوب جديد أو التزينّ بخاتم جميل أو التمتّع بنوم عميق أو السفر في رحلة مغامرة، كلّها رفاهية أيضاً.

لكن ممّا لا شك فيه أنّ الرفاهية مفهوم هلامي قد لا يقبل التقسيم، ولهذا قد يكون من واجبنا العودة إلى معادلات الماضي وصياغة رفاهية تلبّي حاجات عصرنا…

أمّا الآن ، فلنستمتع بما نريد و نبتسم ونضحك فالبسمة صدقة والبسمة لا تقدّر بثمن و لا تحتاج الى مال. ولنعرّف الرفاهية حسب ما نحبّ… فقد تكون هذه هي الرفاهية...

إقرئي أيضاً: إرث الإنسانيّة من قلب السعوديّة!

 

 

 

 

 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث