في مهد الحضارات القديمة، حيث تجلّى تاريخ بلاد المشرق النابض بالحياة على مدى آلاف السنين، لطالما كان فنّ صناعة المجوهرات دليلاً على التراث الثقافي العريق للمنطقة. من دمشق إلى عمّان، توارثت الحرفيّات مهاراتهنّ عبر الأجيال، ليصنعنَ قطعاً فنّية تحكي قصص الحب والجمال والهوية.
مجوهرات بلاد المشرق ليست مجرّد إكسسوارات، فهي صلة بتراث خالد وانعكاس لشعب مرتبط بأرضه وتاريخه. ولكن في العقود الأخيرة، هزّت آثار الصراعات أسس هذا التراث الفنّي الغنيّ، وأدّت الحرب وعدم الاستقرار والتفاوت بين الرجال والنساء في الشرق الأوسط إلى تعطيل الحياة وزعزعة الاقتصادات وخلق تحديات هائلة للكثير من الحرفيّات.
أقامت مؤسسة Swarovski Foundation شراكة مع منظّمة Turquoise Mountain وهي منظّمة غير ربحية أسّسها الملك Charles الثالث في العام 2006 وتعمل في خمسة بلدان مختلفة. ويهدف هذا التعاون إلى إحياء المناطق التاريخية والحرف التقليدية من خلال توفير فرص العمل والمهارات وتمكين النساء، سواء كنّ محليّات أو لا، من خلال فنّ صناعة المجوهرات. ولا تقتصر هذه المبادرة على تعليم الحرفة فحسب، بل تزويد المشارِكات بمهارات تسويقية وتجارية مهمّة تمكّنهنّ من تطوير مصادر جديدة للدخل. ومن الأمثلة البارزة على أعمال المنظّمة في عمّان، الأردن، حيث ساهمت شراكتها الرائدة مع مؤسسة Swarovski Foundation في تمكين جيل جديد من الحرفيّات. وفي بلد عانى من تداعيات الصراع الإقليمي، أوجدت Turquoise Mountain مساحة يمكن للنساء، اللواتي عانى عدد كبير منهنّ من صدمة الحرب، أن يتعافينَ من خلال الإبداع والعمل الهادف. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهؤلاء النساء اكتساب مكانة لهنّ في صناعة المجوهرات الأردنية التي يهيمن عليها الرجال عادةً، حيث أن معدّل توظيف النساء الأردنيّات في صناعة المجوهرات هو الأقلّ في العالم بنسبة لا تتجاوز 15%.
أصبحت Shoshana Stewart رئيسة Turquoise Mountain في أفغانستان عام 2006، حيث عاشت هناك لمدة خمس سنوات. وبالنسبة إليها، تشكّل صناعة المجوهرات مجالاً يمكن أن تزدهر فيه النساء بشكل خاصّ. حيث تقول: "يمكن التزيّن بالمجوهرات وهي مرنة حقاً، كما يمكن التعبير عن رأيك من خلالها ورواية قصّة مع كلّ قطعة."
ومن خلال التركيز على الحرفية العالية الجودة، مكّنت Turquoise Mountain هؤلاء النساء من ابتكار قطع مجوهرات استثنائية تجسّد التراث الثقافي العريق للمنطقة. "هنا، تتعلّم النساء أساسيات الحرفة ومن ثم يستطعنَ الابتكار. من العمل على المينا إلى قطع الأحجار الكريمة والنحت - كلّ هذه التقنيات المختلفة بالإضافة إلى الاطلاع على الزخارف والأشكال والألوان والآليات – لينتقلنَ في ما بعد إلى الجانب التجاري."
وعبر مساعدة هؤلاء الحرفيّات الشغوفات على تعلّم أساسيات المهنة، هنّ لا يتعلّمنَ فقط الخطوات الأولى في المجال، بل يركّزنَ أيضاً على جعل أعمالهنّ مستدامة. "إذا قمنا بتدريبهنّ فقط، فلن ينجح الأمر. لذلك نحاول أن ندعم النظام بأكمله من خلال دعم كل المستويات."
إن عمل Turquoise Mountain في عمّان هو تذكير بأنّ التراث ليس من مخلّفات الماضي، بل هو جسر إلى المستقبل، وبالنسبة إلى Shoshana، فإن هدفها هو مساعدة هؤلاء الحرفيّات على النجاح. "أريد أن أتأكّد من أن النساء اللواتي نعمل معهنّ بالفعل يمكنهنّ الازدهار. نحن نعمل في سوريا والأردن وفلسطين. لذا أريد العمل في هذه البلدان والتوسع فيها. وأعتقد أيضاً أنه من المهمّ أن نعمل على نشر عملنا في جميع أنحاء العالم العربي."
وبهذا المستوى من الالتزام، تحظى Turquoise Mountain بدعم مؤسسة Swarovski Foundation للمساعدة في استعادة تراث المجتمعات في الكثير من البلدان حول العالم. ولا تسعى Jakhya Rahman-Corey، مديرة Swarovski Foundation لتحقيق مهمة عظيمة فحسب، بل تهدف أيضاً إلى جعل الناس يشعرون بالرضا وتساعدهم على تحقيق شغفهم. فتقول: "هدفنا في Swarovski Foundation هو الحدّ من عدم الإنصاف والتفاوت داخل المجتمعات المحلّية من خلال تحسين فرص اكتساب المهارات والتعليم. وسواء كان التعليم رسمياً أم غير رسميّ، فإنّه يمنحنا الأدوات اللازمة لبدء حياة مهنيّة وتمكين المشاركات من تأمين سبل عيش مستدامة."
وتفرح Jakhya جداً لرؤية الحرفيّات وهنّ يتطوّرنَ، سواء من حيث المهارات أو تعزيز شخصياتهنّ. فتقول: "عندما وصلت، كانت العروض التقديمية مذهلة. وبفضل توجيهات فريق Turquoise Mountain، اكتسبت الكثير من هؤلاء النساء الثقة لرفع أصواتهنّ وتقديم إبداعاتهنّ على الساحة العالمية. إن التغلب على هذا الخوف هو جزء مهمّ من بدء عمل تجاري، ونحن فخورون جداً برؤية مدى تقدّم الحرفيات."
لا تتعلّق صناعة المجوهرات فقط بالاستمرارية والصمود، بل بالحفاظ على تراث دام لقرون. هناك حقيقة مؤثّرة في العبارة اللاتينية القديمة "الفنّ طويل، والحياة قصيرة". ويذكّرنا هذا الكلام عن لسان الطبيب اليوناني Hippocrates، بأنّ الحياة سريعة الزوال، بينما يدوم الفنّ أكثر من الزمن. وقد وجّهت هذه الفلسفة الحرفيّات في الشرق الأوسط خلال فترات الازدهار والشدّة على حدّ سواء. وبالرغم من أنّ حياتهنّ قد شوّهتها صراعات الحرب والخسائر، إلّا أنّ فنّهنّ يدوم ويحمل جمال تراثهنّ وروحه إلى ما بعد الزمن الحاضر.
