شهر العودة
مها خالد طيبة، مستشارة في الاستراتيجيّة والقيادة وجودة الحياة ومؤسسة شركة "رُمَّان"
اعتدنا في شهر سبتمبر أن نعود إلى أمور حياتنا بعد انتهاء الصيف والإجازة الصيفية، فمنّا من يعود إلى بيته بعد السفر وإلى عمله وإلى روتينه اليومي، وأبناؤنا يعودون إلى تجهيز حقائبهم المدرسية... وتعود المياه إلى مجاريها ويبدأ الجدّ والاجتهاد مع سنة دراسية جديدة ويزداد العمل في المنظمات لقرب إنتهاء سنة مالية وتحقيق الأهداف، فأصبح شهر سبتمبر هو "شهر العودة" ويبدأ نفس المشوار من جديد كل سنة. ولكن ماذا لو قرّرنا هذه المرّة أن نعود لشيء مختلف؟ ماذا لو قرّرنا أن نعود إلى أنفسنا هذا الشهر؟... فهل يا ترى سنعرف الطريق إلينا؟
إعادة الاتصال بذواتنا الحقيقية وسط متطلّبات الحياة اليومية ليست مهمّة سهلة. إنّها رحلة مليئة الدهاليز وعدم الوضوح والمنعطفات والاكتشافات غير المتوقّعة. الخطوة الأولى في هذه الرحلة هي الاعتراف بأهميتها، من المهمّ جداً أن نعرف يقيناً من نحن بدون المسميّات الوظيفية أو الأدوار الاجتماعية، بل هناك هوية أعمق وأكثر جوهرية نريد أن نتعرّف عليها ونصادقها..
إقرئي أيضاً: اهمية هرمونات السعادة الأربعة في حياتنا وأثرها على جودة الحياة
تحدّث عالم النفس الشهير كارل يونغ بشكل واسع عن عملية التفرّد، رحلة نحقّق فيها أقصى إمكاناتنا التي نستطيع أن نحقّقها. وفقاً ليونغ، يتطلب ذلك اكتشاف والتعرّف على ومن ثم دمج أجزاء مختلفة من أنفسنا. بما في ذلك طفلنا الداخلي الذي لا يهمّه إلا أن يجد جرعة السعادة يومياً، يرى الأمور ببساطة ولا يبالي بالأحكام ولا يعرف طريقها. أمّا المراهق بداخلنا والذي لدية الشغف والفضول والرفض والحماس غير المتزن، والذي -وبكل جرأة- يحمل أحلام المسقبل وطموحات المجهول. ثم يحين وقت التعرّف على ما يسمّيه كارل يونغ "الظلّ" من شخصيتنا ومشاعرنا والذي نخفيه عن غيرنا وعن أنفسنا في كثير من الأحيان، ذلك الجزء المعتم الذي تختبئ فيه مخاوفنا بأنواعها، وآلامنا المقموعة وصورنا السلبية عن ذواتنا، هذا الجزء الذي غالباً ما نهمله أو نرفضه أو نتقنع بغيره فنخرج للمجتمع بوجه آخر. شئنا أم أبينا، هذه الأوجه المختلفة لذواتنا تؤثّر على قراراتنا وعلى ردود أفعالنا وطبيعة مشاعرنا. وبدونها نفقد التميّز والاختلاف وحين ندرك أنّ التقبل والفهم والإلمام بكلّ ما هو حقيقتنا هو المفتاح للعثور على خريطة العودة إلى ذواتنا الحقيقية فنكون بدأنا الرحلة والتي في الأغلب هي رحلة العمر التي لا تنتهي....
عندما نبدأ طريق العودة إلى ذواتنا الحقيقية، ماذا سنكتشف؟ قد نجد نسخة أصيلة من أنفسنا مرتبطة بعمق بشغفنا وقيمنا التي نشأنا عليها، وقد نجد نسخة لا تزال متعلقة بقصة قديمة يرويها لنا صوتنا الداخلي، ولكنها لا تخدم طموحنا وحاضرنا اليوم، وقد نجد جزء منا كان يسعدنا بالأمس، مُهمل الآن لدرجة أنّه نسي سر وجوده وجزء آخر مليئ بالحيوية ينتظر بفارغ الصبر أن نتوجه له بقليل من الاهتمام فينفجر بالنور والسرور. هذه نسخنا وهذه أجزاءنا بعضها يحتاج معالجة وتحديث، وبعضها يحتاج "طبطبة" وتقبّل وهناك نسخ تحتاج كثيراً من العفو والتسامح والبعض الآخر يحتاج منا الرضى والإذن بالخروج لترى النور وتكون مصدر إلهام جديد. طريق العودة لذواتنا طريق فيه كثير من التقلبات، أحياناً يكون صعب وفيه مواجة مظلمة واستحضار ذكريات مؤلمة لمعالجتها وتحييد أثرها السلبي علينا وينصح أن يكون معنا شخص متخصّص ومرخّص يساعدنا قراءة الخريطة بشكل أوضح. وفي وسط الظلام سنجد محتماً ومضات من الحكمة والنور قد تغير مفهومنا عن الحياة وعن التعاملات بشكل جذري تماماً. وأحياناً أخرى في طريق العودة فنتذكر شغفنا وقد نتذكّر خططنا السابقة وقد نسترجع أجمل الذكريات ونبعث فيها روح الأمل من جديد فنجد أنسفنا نشتاق للمرح وللسعادة التي كانت في زمن ماضي بسيط وسهلة ومشبعة ونجد أنفسنا حجزنا موعداً لتكرار التجربة من جديد.
ماذا لو عدنا في سبتمبر إلى أنفسنا؟ فهل سنجد الطريق إلينا؟
إقرئي أيضاً: 6 قواعد أساسيّة لعلاقة سليمة مع الآخرين