انظري من حولك، كم من امرأة مكافحة، حكيمة، مناضلة، متألّمة لم تُحكى قصتها بعد؟ كم تعرّفت خلال نشأتك على نساءٍ ألهمنك وبقيت حكاياتهنّ مخفيّة؟ كم من القصص قد تلهم العالم إذا خرجت إلى الضوء، وكم من قصصٍ أخرى ما زالت تتشكّل وتنتظر من يحكيها؟ روايات عديدة تبقى بعيدة عن الإعلام، فلا تُناقش ولا تُعالج. لكلّ منّا قصّتها، قد نتشابه في أماكن كثيرة ونختلف في أماكن أخرى، إنّما يبقى الأهمّ هو أن نتشاركها مع العالم. فعندما تتكلّم المرأة، هي لا تخبر فقط قصّتها إنّما قصص الكثير من النساء الأخريات. وبذلك تتماهى معها الكثيرات وتتأثّر بها العديدات. والأعظم هو أن يتعلّم العالم من هذه الروايات. فنقوم من خلال ذلك بتغيير السرديّة العامّة ونكسر الصور النمطيّة، ونأخذ زمام الأمور برواية القصص التي نريد وبالطريقة التي نريد. في هذا الإطار واحتفاءً بيوم المرأة العالمي، طلبنا من المخرجة السعودية رماس الحازمي أن تشاركنا قصة غير محكيّة لنساءٍ في مجتمعها عبر فيديو يعرض في يوم المرأة. فعندما تتولّى النساء إخراج الأفلام وكتابتها وإنتاجها، يمنحن القصص النسائية الحقيقيّة مزيدًا من العمق والواقعيّة. في ما يلي، نتعرّف عن قرب إليها وإلى القصة التي اختارت مشاركتنا إيّاها، كما إلى آرائها بقدرة الصناعات الإبداعيّة اليوم على تغيير السرديّة المتعلّقة بالمرأة.
Rmas Alhazmi:" التأثير الأكبر يأتي من تلك القصص التي لم تُحكى من قبل "
بداية مسيرة رماس الحازمي كمخرجة أفلام في السعودية كانت دائماً مرتبطة بالقصص. وهذه القصص لم تكن عبارة عن صدف، بل كانت تجسيد لكلّ ما يحيط بها، في طريقة كلام الناس حولها، في الحكايات التي تتوارثها العائلة جيلاً بعد جيل. كانت في كلّ مكان ولم تكن لمجرّد الترفيه، بل كانت وسيلة لإثبات هويتهم وطريقة اعتمدها آبائهم لتذكيرهم من هم. تلك الذكريات لم تفارقها، بل كانت تمتزج بمشاعر الحنين للوطن خاصة أثناء دراستها في أستراليا. وعندما عادت إلى المملكة شعرت بأهميّة البحث عن تلك التفاصيل التي تشكّل هويتها وتوثيقها، لاسيما أنّ السعودية غنية بثقافاتها، وكلّ منطقة فيها لها طابعها ونظرتها الفريدة، وهذا الشيء الذي تتطلع أن تنقله للعالم.
اعتادت رماس الحازمي أن تكون منجذبة للدراما النفسية، كونها مهووسة بفهم العقل البشري والمشاعر الإنسانية وأثرها في تشكيل الإنسان. وهذا ما قادها تلقائيًا لاستكشاف تعقيدات حياة المرأة وخلق لديها الشغف في تسليط الضوء على جوانب الأنوثة التي نادرًا ما تُحكى. مشروع المخرجة السعوديّة الأخير تناول موضوع اكتئاب ما بعد الولادة، وتشرح لنا خيارها هذا بالقول: " لم أتعرّض شخصيًا لتجربة اكتئاب ما بعد الولادة، لكن سمعت قصص لكثير من الأمهات مررن بها، وبالتالي لم أستطع تجاهل الثقل الذي تحمله. الأمومة تُصوّر غالباً على أنّها مشاعر فرح وسعادة، لكن نادرًا ما تتطرّق لمشاعر المعاناة والجهد النفسي الذي قد يحدث للبعض. كان هدفي توضيح جانبين: جانب جمال إنجاب حياة جديدة، وجانب المعاناة الصامتة للأمّ."
قصتها تذكّرني أنّ التغيير غالبًا يبدأ بأبسط الأشياء
لدى رماس الحازمي قناعة بأنّ التأثير الأكبر يأتي من تلك القصص التي لم تُحكى من قبل. واحدة بين هذه القصص هي قصة جدتّها وملهمتها التي كانت أوّل فتاة تحصل على فرصة التعليم في عائلتها. تخبرنا: " جدّتي لم يكن لديها موارد ولا امتيازات عن بنات جيلها، لكن كان لديها رغبة قوية في التعلّم وإصرار على تغيير واقعها ومساعدة من حولها مع الاستمرار في الالتزام بدورها كأخت كبرى لثماني أخوة وأخوات وأمّ مريضة. رحلتها لم تكن سهلة، فكانت تضحّي بوقتها وتعيد ترتيب التزاماتها بين كلّ فترة وأخرى، واضطرّت كثيراً للانقطاع عن دراستها للاعتناء بوالدتها وعائلتها كأولوية، ثمّ ما لبثت إلاّ أن عادت لتكمل أهدافها. لكن بالرغم من كلّ شيء، حبّها للتعليم لم يختفي. كان معلّمها في المدرسة رجل أعمى علّمها الدين الإسلامي. وكان وصولها من البيت للمدرسة ليس بالأمر السهل. وحدث أن نجت من سيل تاريخي حصل وهي في المدرسة. ومع كلّ ذلك، واصلت رحلتها وأصبحت إحدى أوائل المديرات في مدارس البنات في المملكة." وتتابع: "ما ألهمني هو أنّها لم تفكّر في أثرها على التاريخ والأجيال القادمة، بل ركّزت على شغفها بالتعلّم لكسب مهارات الحياة وإيجاد وسيلة لمساعدة عائلتها. قصتها تذكّرني أنّ التغيير غالبًا يبدأ بأبسط الأشياء. وقد يكون بإصرار امرأة واحدة على صناعة أمر مختلف. لذلك نحن مسؤولين عن نقل هذه القصص للأجيال القادمة. وهذا السبب دفعني لتوثيقها. لأنّ التاريخ ليس فقط ما نتذكّره، بل ما نقرّر أن نحكي ونوثّقه".
كيف يمكن لصناعة الأفلام المساهمة في إيصال قضايا ومشاكل النساء في مجتمع اليوم، تؤكّد: "توجد إمكانيات هائلة في صناعة القصص التي تركّز على المرأة، هناك زوايا كثيرة لم يتمّ استكشافها. الدعم موجود، الجمهور موجود، والناس مستعدّة لرؤية نفسها على الشاشة. أنا مؤمنة أن النّساء يبحثن عن أنفسهنّ في الأفلام، يبحثن عن معاناتهنّ، انتصاراتهنّ، وتجاربهنّ اليومية لتُعرض بصدق واحترام. الأفلام عندها قدرة استثنائية على جمع المجتمعات. القصة القويّة تصل للجميع، تأثّر، تحرّك المشاعر، وتخلق حوار يستطيع تغيير المفاهيم. في عالم اليوم، حيث أصوات النساء لا تزال تُكتم أحيانًا، لدى المخرجين والمخرجات القوّة لكسر هذا الصمت. مهمّتنا كشف هذه القصص، والتأكّد من أنّه لا يوجد صوت يختبئ في الظل".
وتختتم بتوجيه رسالة إلى كلّ فتاة وسيّدة وتقول: "انظري حولك. القصص موجودة في كلّ مكان. الإلهام موجود في اللحظات العادية، في المحادثات التي نسمعها، في التاريخ الذي تحمله النساء قبلنا. السرد ليس ما نكتبه أو نصوّره، بل يتمثّل في الحقيقة التي نكشفها والطريقة التي نبرز فيها الأشياء التي تمّ التغاضي عنها. وهذه القوّة... القوّة في نقل الحقيقة، في إعطاء صوت للأشياء التي تمّ تجاهلها لفترة طويلة. لا تنتظرين من يرشدك أو يقول لك "هذا دورك". أمسكي القلم، الكاميرا، أي وسيلة عندك، وابدئي. ابحثي عن القصة التي تثيرك، وربما لم تفارق مخيلتك، ودوّنيها. عندما تتكلّم امرأة واحدة، هي لا تحكي قصتها فقط، بل تفتح الباب لامرأة غيرها لتروي المزيد!"