انظري من حولك، كم من امرأة مكافحة، حكيمة، مناضلة، متألّمة لم تُحكى قصتها بعد؟ كم تعرّفت خلال نشأتك على نساءٍ ألهمنك وبقيت حكاياتهنّ مخفيّة؟ كم من القصص قد تلهم العالم إذا خرجت إلى الضوء، وكم من قصصٍ أخرى ما زالت تتشكّل وتنتظر من يحكيها؟ روايات عديدة تبقى بعيدة عن الإعلام، فلا تُناقش ولا تُعالج. لكلّ منّا قصّتها، قد نتشابه في أماكن كثيرة ونختلف في أماكن أخرى، إنّما يبقى الأهمّ هو أن نتشاركها مع العالم. فعندما تتكلّم المرأة، هي لا تخبر فقط قصّتها إنّما قصص الكثير من النساء الأخريات. وبذلك تتماهى معها الكثيرات وتتأثّر بها العديدات. والأعظم هو أن يتعلّم العالم من هذه الروايات. فنقوم من خلال ذلك بتغيير السرديّة العامّة ونكسر الصور النمطيّة، ونأخذ زمام الأمور برواية القصص التي نريد وبالطريقة التي نريد. في هذا الإطار واحتفاءً بيوم المرأة العالمي، طلبنا من نوف الحميري أن تشاركنا قصة غير محكيّة لنساءٍ في مجتمعها عبر فيديو يعرض في يوم المرأة. فعندما تتولّى النساء إخراج الأفلام وكتابتها وإنتاجها، يمنحن القصص النسائية الحقيقيّة مزيدًا من العمق والواقعيّة. في ما يلي، نتعرّف عن قرب إليها وإلى القصة التي اختارت مشاركتنا إيّاها، كما إلى آرائها بقدرة الصناعات الإبداعيّة اليوم على تغيير السرديّة المتعلّقة بالمرأة.
Nouf Alhimiary: " أريد أن أكرّم اليوم النساء اللواتي يدعمنَ أنفسهنّ ويشجّعنَ الأخريات "
نشأت نوف الحميري في جدة، ولطالما كان لديها شغف بالقصص منذ طفولتها، سواء كانت من الحكايات الشعبية أو قصاصات المجلّات أو الروايات الخيالية أو حتى من الإنترنت في بداياته. في البداية كانت توثّق عالمها من خلال التصوير الفوتوغرافي الذي شكّل لها وسيلة للتشبث بالأشياء قبل أن تختفي، قبل أن تتلاشى الصداقات، وقبل أن تتغيّر الأماكن. ولكن مع مرور الوقت، أدركت أنّ عملها لم يكن مجرّد توثيق، بل هو يتعلّق أيضاً بإعادة بناء الروايات وإعادة تشكيلها والتشكيك فيها. فتوسّعت ممارستها وتطوّرت بشكل طبيعي. وفي السنوات الأخيرة، بدأت تتنقّل بين التصوير الفوتوغرافي والمنسوجات والوسائط الإبداعية التقنيّة والكتابة والفيديو. والآن، ما بين عملها على رسالة الدكتوراه في كلية لندن الجامعية، وأبحاثها في جامعة Yale، والفنّ، تجد نفسها تعود دائماً إلى غريزة الطفولة، أي الحاجة إلى الأرشفة والتساؤل وخلق عوالم جديدة من عوالم مشتّتة.
تتمتّع نوف الحميري بشغف بالأنوثة والتصوّف والافتراضية والذاكرة، وبكيفية تقاطعها وتناقضها، وتحوّلها إلى لغة نستخدمها لفهم أنفسنا. هي تحبّ معارضة فكرة أنّ التكنولوجيا باردة وبعيدة، إذ تنجذب إلى رؤية الافتراضية كبوابة تؤدّي إلى مساحة تأمّلية أو روحيّة.
كلّ المشاريع التي عملت عليها نوف الحميري مهمّة بالنسبة إليها بطرق مختلفة، لكنّ مشروع Machine Poetry هو الذي تجد نفسها تعود إليه باستمرار. وتشرح قائلة: "بدأت هذا المشروع أثناء إقامتي الفنّية في اليونان، حيث زرت Delphi، الموقع الذي تواجدت فيه Pythia عرّافة Delphi بينما كانت تستنشق الأبخرة وتتحدّث بنبوءات شكّلت مصير الإمبراطوريات. كانت فتاة صغيرة، مختارة ومدرّبة على الطقوس واللغة. وفي مشروع Machine Poetry ، ابتكرتُ Pythia بواسطة الذكاء الاصطناعي، لتكون عرّافة رقمية مدرّبة على النبوءات القديمة. وبدلاً من الأبخرة، تستنشق البيانات. بدلًا من اللغات، تتحدّث بنصوص مولّدة آلياًّ. لا يتمحور هذا الابتكار حول الذكاء الاصطناعي فحسب، بل أيضاً بالقلق والاضطراب، وارتدادنا عن المجهول. كان الناس يخشون العرّافات في السابق كما يخشون الآلات الآن. وجزء أساسيّ من العمل التركيبي هو سمّاعة واقع افتراضي مصنوعة من خيوط شعر بشري، خيوط قمت بغزلها بنفسي. لطالما كان يُنظر إلى الشعر على أنّه افتراضي في الكثير من الممارسات الثقافية، فهو أداة تحفظ الجوهر الشخصي. وقد تمّت سرقته وحرقه ودمجه في التعاويذ. ومن نواحٍ كثيرة، هو أشبه بمخزن البيانات الأصلي. وفي Machine Poetry، تصبح هذه السماعة بوابة، تجمع فيها المخاوف القديمة والجديدة معاً. وغالباً ما يتمّ وصف الذكاء الاصطناعي، مثل الإنسان الآلي، بأنّه بارد وميكانيكي. فأردت أن أفعل العكس، وأن أجعله إنسانياً وملموساً وشخصياً."
الصداقات بين الفتيات والسيّدات غالباً ما تكون ما يبقينا متماسكات
تدور القصة التي تشاركنا إيّاها نوف الحميري في الفيديو الخاص بها حول الصداقة. وتشرح قائلة: "كفتيات، لم نتعلّم يوماً أنّ الصداقة هي علاقة أساسية تشكّل حياتنا. قيل لنا أن نعطي الأولوية للعائلة والزواج والمهنة. أمّا الصداقة فتُعتبر شيئاً ثانوياً، ومجرّد إضافة. لقد اخترت هذه القصة لأنّ الصداقات بين الفتيات والسيّدات غالباً ما تكون ما يبقينا متماسكات، وهي تستحقّ المساحة والاهتمام والعناية التي نمنحها للعلاقات "الجادة". تتمحور القصة التي أشاركها حول تعلّم الإفساح في المجال أمام الصداقة، وحول التخلّي عن فكرة أنّها أمر ثانوي. تتعلّق القصة أيضاً بالطرق التي يمكن أن تنتهي بها الصداقات من خلال الإهمال، والتفكك البطيء والهادئ الذي يحدث عندما نفترض أنّها ستكون موجودة دائماً. كيف نبني صداقات تدوم؟ ما الذي يتطلّبه الأمر للحفاظ عليها واختيارها والاعتراف بها كعلاقات عميقة تشكّل حياتنا فعلاً؟"
وتختتم نوف برسالة إلى النساء في مجتمعها في يوم المرأة وتقول: "لستِ مضطرة لإثبات نفسك من خلال الإنجاز أو الصمود أو النجاح. فيَكفي وجودك هنا، ووجودك على طريقتك الخاصة، وتحرّكك في العالم على طبيعتك. كثيراً ما يُقال لنا أنّ قيمتنا مرتبطة بما ننجزه، وأنّنا يجب أن نكون رائدات أو مبتكرات لكي يرانا العالم. ولكن كما قالت Mary Oliver:
”ليس عليك أن تكوني جيدة.
ليس عليك أن تمشي على ركبتيك
لمئة ميل في الصحراء تائبة.
يكفي أن تدعي ما في داخلك
يحبّ ما يحبّ."
لذا، أريد أن أكرّم اليوم النساء اللواتي يدعمنَ أنفسهنّ ويشجّعنَ الأخريات. أولئك اللواتي يستمعنَ ويتذكّرنَ ويفسحنَ في المجال للأخريات ليكنّ على طبيعتهنّ تماماً. لأنّه في النهاية، يكمن تأثيرنا الأكبر في الطريقة التي نساند بها بعضنا البعض على طول الطريق".