مع فائق الحبّ، من المملكة العربيّة السعوديّة في يومها الوطني!

فيما استكشفنا ضمن هذه السلسلة المخصّصة للمملكة العربيّة السعوديّة تاريخ هذه الأرض وثقافتها، والشعوب والممالك والسلالات التي عاشت فيها منذ فجر التاريخ، شهدنا على ما حقّقوه سواء في ما يتعلّق بالآثار التي سُجّلت في اليونيسكو، أو الإنجازات التجاريّة والحضاريّة. فضلاً عمّا نتُجَ أيضاً عن اختلاط هذه الشعوب من ثقافة وعلوم وأديان تعمّقت في جينات السكّان وجعلت منهم ومن موقعهم حضارة متميّزة بصحرائها وجبالها وبحارها ومُدنها وواحاتها. ثمّ انتقلنا في عددنا السابق إلى المغامرات والإمبراطوريّات الإسلامية وصولاً إلى سكّة حديد الحجاز وبدء الحرب العالميّة الأولى واكتشاف النفط. إنّما لا بدّ لنا من التوقّف لبرهة هنا، فعندما ننظر إلى التاريخ الذي استكشفناه، نلاحظ نقطة مهمّة. إذ كان للجزيرة العربيّة إمبراطوريّات متعدّدة متناثرة في كلّ اتّجاه ومكان، ودخل الكثير منها في حالة حرب مع بعضها البعض في مرحلة من المراحل خلال عشرات آلاف السنين الماضية. فقبل الفترة الإسلاميّة المبكرة، لم تكن الجزيرة العربيّة موحّدة أبداً. ولكن مع مطلع القرن العشرين تغيّر ذلك إلى الأبد حيث دخلت إلى المشهد العام شخصيّة جديدة بفكر جديد . . . وهي عبد العزيز بن سعود!​​​​​​​

الصور كلّها من www.sta.gov.sa

 . . وأصبح هناك سعوديّون

عندما نفكّر في المملكة العربيّة السعوديّة، يتبادر إلى ذهننا ثلاثة أمور أساسيّة: مكّة المكرّمة والنفط والملك عبد العزيز آل سعود! وثمّة سبب وجيه لذلك، إذ إنّه أنجز ما لم ينجزه أحد من قبله، ووحّد منطقة لم تُوحّد يوماً سواء جغرافيّاً أو سياسيّاً لتصبح كياناً واحداً وهويّة واحدة جامعاً بين الكثير من التنوّع في دولة حديثة. وهذا إنجاز حقيقيّ ومذهل فعلاً!

وفي عددنا هذا وبينما نحتفي باليوم الوطني السعودي، سنتوقّف عند هذه النقطة إنّما من منظور جديد في السرد التاريخيّ، حيث سنرى قصّة الملك عبد العزيز وتوحيد المملكة من وجهة نظر مختلفة، غالباً ما تُهملها كتب التاريخ وقلّ ما يعرف عنها غير السعوديّين. سنرى عبد العزيز بن سعود الإنسان والعلاقة الوديّة والخاصّة التي تجمعه وسكان الجزيرة العربيّة الذين أصبحوا يسمّون بالـ "سعوديّين". ومن خلال بحثي عن هذا الموضوع، وقعت فعلاً في حبّ الملك وفهمت لمَ نحبّه كسعوديّين. لذا اسمحوا لي أن أخبركم أكثر عن قصّة الحبّ هذه التي تجمع بينه وبيننا.

وحّدوها معاً وأسّسوها معاً وبنوها معاً

في خلال التفكير لكيفيّة كتابة هذا المقال، حاولت كثيراً أن أكتب عن الملك الذي يتّسم بروح عمليّة، من وجهة نظر غير سياسيّة، ووجدت أنّ الزاوية الصحيحة للكتابة عنه تعيدني دائماً لنظرة الابن لوالده، وفعلاً هذه هي المشاعر التي يشعر بها السعوديّون تجاه الملك وما فعله وأنجزه لبلاده الجديدة. بحيث أنّ نظرة الوالد أو الأخ له ليست بعيدة عن الواقع، فكثيرة هي القبائل السعوديّة التي ساهمت شخصيّاً في توحيد المملكة معه. وقد حرص الملك على التواصل العائلي مع كلّ قبيلة أو أسرة كانت حاكمة، فأصبح السعوديّون عائلة واحدة مترابطة وكذلك بات أبناؤه من بعده. لهذا يشعر السعوديّون جميعاً بالولاء والانتماء إلى هذه الأرض، فهم وحّدوها معاً وأسّسوها معاً وبنوها معاً ومازالوا معاً. فدمج الناس ومن هنا تكوّن اسم شعب هذه الأرض، سواء كان في خميس مشيط أو مكّة المكرّمة أو مستقبلاً نيوم: كلّنا سعوديّون!

وفي ما يلي سرد وجيز لوقائع توحيد المملكة العربيّة السعوديّة:

جغرافيّاً: لم تكن فكرة توحيد الجزيرة العربيّة ضمن دولة واحدة قابلة للتحديد من قبل، على عكس دولة العراق أو مصر على سبيل المثال. وخلال الإمبراطوريّة الإسلاميّة المبكرة، كانت الجزيرة العربيّة جزءاً من الخلافة الأمويّة أو العباسيّة، لكن كان في الحجاز والي، وفي الجنوب والي وفي اليمن حاكم، وكانت محافظة الأحساء جزءاً من القسم الشرقي من الخلافة. وكانت هذه المناطق أيضاً إمّا جزءاً من دول أو إمبراطوريّات أخرى. ولم ساكن الأحساء مثلاً يشعر بارتباط مع ساكن نجران، ولم تربط ساكن الطائف علاقة وهويّة وطنيّة مع ساكن حفر الباطن. صحيح أنّهم يتشاركون جميعاً الهويّة العربيّة والإسلاميّة عينها، إنّما ذلك لا يختلف عن الترابط الأخوي بين سكان الدرعية وأهالي دمشق.

كدولة: تمتّع الملك عبد العزيز بالحكمة والبصيرة السياسيّة لفهم القوى العظمى وتحوّلات السلطة في عصره. وقد أدرك أهميّة الهويّة والقوميّة والحاجة إلى إنشاء دولة حديثة تتطلّع إلى المستقبل، مع مؤسّسات ووزارات وتجارة واقتصاد وقوّة سياسيّة. وفهم في وقت مبكر أنّ التقاليد يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع التقدّم والتطوّر. وتماماً بمثابة أب لأمّة، شرع في المضي قدماً مع السعوديّين نحو المستقبل.

موازين القوى والذهب الأسود

بعد أن أدرك الملك عبد العزيز وهو ابن هذه الأرض أنّ وحدة سكان الجزيرة تحققّت، كان لديه تصوّر واضح عن شكل الدولة الجديدة. متسلّحاً بصدق نيّته وطموحه وإدراكه أنّ العالم يتقدّم وموازين القوى تتغيّر، بادر فوراً إلى تأسيس نظام سياسي متقدّم ومواكب لمتطلّبات العصر آخذاً في الحسبان العادات والتقاليد السائدة والمرحلة الفكريّة للمجتمع. وكان أوّل من بدأ في تأسيس الدولة وحرص على رفاهيّة مجتمعها. وفي بيئة صحراويّة قاسية، لا شكّ في أنّ الماء هو أهمّ مصدر للحياة.

واشتهر عبد العزيز بدعاء كان يردّده دوماً وهو أن يفتح له الله كنوز الأرض. وقد أدرك الملك أنّه يستطيع اكتشاف المياه بالطرق الحديثة وسارع فعلاً إلى استقبال الشركات العالميّة للبحث عنها. واستجابةً لدعائه الصادق، كانت الأرض تُخرج نفطاً بدلاً من الماء. وإدراكاً منه أهميّة النفط للمستقبل كبديل عن الفحم قرّر المضي قدماً في التنقيب عنه، ومن شدّة ذكائه أعطى الامتياز لمن يدفع له بالذهب بدلاً من العملات لتمتلئ خزينة الدولة بالذهب.

وفعلاً ما نراه من تقدّم ورفاهية في المملكة ناتج عن ذلك. ومثل النفط، حرص الملك على إدخال كلّ ما هو جديد لبناء دولة عصريّة ومستدامة، كالبرقيّة والإذاعة فضلاً عن إنشاء وزارات ومؤسسات للتنمية.

التطوّر على قدمٍ وساق

ففيما اتّسمت السعوديّة عبر التاريخ بالعادات والتقاليد المحافظة، كان التطوّر رياديّاً في شتّى المجالات كالبنية التحتيّة والصحّة والتعليم والاقتصاد وبناء علاقات قويّة ومتينة في المجتمع الدولي، حتّى دخلت مجموعة العشرين. وفي الواقع كسعوديّين عشنا في هذه الجزيرة المتنوعة التي جعلتنا عمليّين مدركين متى يتوجب علينا التكيّف مع واقعنا وزمننا. وفهم الملك عبد العزيز ذلك بفضل معرفته بمجتمعه، فراح يوازن ما بين عادات المجتمع وما تتطلّبه الدولة من تقدّم وحضارة، حتّى باتت السعوديّة من دول العالم الرائدة.

واليوم نرى أنّ التطور في المملكة على قدمٍ وساق. وكان اقتناع الملك بالتقدّم يضطره في أحيان لإقناع المعارضين بالأساليب التي تناسبهم. فمن القصص المشهورة، أنّه عندما أدخل الراديو والإذاعة إلى المملكة، جاءه بعض الأشخاص لإثنائه عن ذلك، ولكنّه أتى بالراديو وقال لهم هل رأيتموه أو سمعتموه؟ قالوا لا، فشرح لهم أنّ التكنولوجيا هي سلاح ذو حدّين، إنّما يعود الأمر إلى طريقة استخدامها والأمثلة على ذلك كثيرة.

وأدرك عبد العزيز أنّ التغيير السريع قد لا ينفع في بعض الأحيان، وبهدف الاستمرار والاستدامة يجب أن تكون جاهزيّة المجتمع ركناً أساسيّاً للتقدّم لئلا ينعكس الأمر سلباً. والأمثلة على ذلك كثيرة بدءاً بالتلفزيون ووصولاً إلى قيادة المرأة للسيارة.

وفي ما يلي سرد وجيز لهذه التنمية:

التنمية ومفاخر السعودية: في عام 1985 كنت أرى الأمير سلطان بن سلمان في مكوك الفضاء (ديسكفري) وأسمع أنّه أوّل رائد فضاء عربي مسلم، كنت أنظر بكثير من الدهشة ولم أكن أعلم مدى أهميّة هذا الحدث وكيف أنّه مصدر فخر لنا كسعوديّين.

وعندما بدأت مداخيل النفط تأتي إلى السعودية، أنفقت الدولة على البعثات التعليمية أوّلاً. ولم تكن هذه الفكرة سهلة على مجتمع جديد يبني نفسه. فعنصر الشباب هو من سيبني البلاد وذهابه للتعلّم لفترة تزيد عن عشر سنوات، سيقلّل من مصادر دخل عائلاته. فقامت الدولة بفتح مصادر دخل كتثمين الأراضي وصناديق التنمية إلخ، حتّى تنمو البلاد ويتعلّم الجيل الجديد من خبرات الدول الأخرى. فكانت أوّل البعثات إلى مصر ولبنان ومن ثمّ إلى الدول الغربيّة.

أجيال متعلّمة مواكبة لحركة الاقتصاد العالمي

لطالما كانت نظرة المملكة للتنمية مستدامة وطويلة الأجل. فعند بداية النهضة الزراعيّة في مطلع الثمانينات مثلاً، لم تركّز على منطقة واحدة إنّما توزّعت في كلّ أنحاء المملكة. فكان يتقدّم المواطن مثلاً بالطلب ويتمّ تأمين كافّة المتطلّبات اللازمة من أراض ومعدّات وأسمدة، فضلاً عن إيصال المياه ومراقبة المحاصيل حتّى الحصاد وشرائها من الدولة بثمن مدعوم لتشجيع الإنتاج وتسارع التنمية. والعبرة من هذا المثل أنّ المزارع يملك أرضاً وعملاً يكون مصدر دخل له ولعائلته، ويحظى بالبنية التحتيّة من طرق ومياه وكهرباء وخدمات التعليم والصحّة ويساهم في إسراع عجلة تقدّم بلاده وتوريث أجيال متعلّمة ومواكبة حركة الاقتصاد العالمي. وتماماً كما أشار المثل الصيني، علّم الإنسان الصيد بدلاً من إعطائه سمكة.

حقيقة هذا الكلام واقع مرئي وملموس في المجتمع وخارجه، والأمثلة عن ذلك كثيره. فقد وجدت السعوديّة الطريقة المناسبة لها والتسارع المنطقي لتحقيق أهدافها، سواء اقتصاديّاً أو ثقافيّاً أو فنيّاً.

وأنا أخو نوره

قد يجهل الكثيرون أنّ أشهر ألقاب الملك عبد العزيز هو أخو نوره. وكان يردّد كلمة مشهورة جدّاً في حال أراد التأكيد على شيء ما أو كان في موقف لا يحتمل إلّا الجدّ أو القوّة، فيقول مثل القَسم كصيغة للتأكيد "وأنا أخو نوره". إذ كان الملك يفتخر كثيراً بأخته نوره التي ساعدته ورجاله في فتح الرياض، وهذا يدلّ على تكريم المرأة السعوديّة ومكانتها. ونذكر هنا الملكة عفت الثنيان زوجة الملك فيصل التي لعبت دوراً كبيراً وفعّالاً في تبنّي تعليم المرأة وريادتها. أمّا لدى تأسيس أكبر جامعة في المملكة، فسُمّيت جامعة الأميرة نوره بنت عبد الرحمن. وهذا يدلّ على مكانة المرأة السعوديّة في فكر الملك والمجتمع السعودي على حدّ سواء. فهي حاضرة في تكوين مستقبل المملكة. وفي بداية عهد الملك عبد الله، تمّ إصدار بطاقة أحوال للمرأة السعوديّة، أمّا في نهايته فدخلت المرأة كعضو في مجلس الشورى. ولا بدّ من النظر إلى تسارع الخطى، إذ نرى في الجيل نفسه أنّ الأمّ غير متعلّمة وابنتها عالمة أو جرّاحة. وقد حقّقت المملكة في غضون عشر سنوات فقط ما احتاجت دول أخرى إلى مئات السنين لإنجازه. أمّا دور المرأة اليوم، في عهد الملك سلمان، الذي يتمثّل في كونها سفيرة ووكيلة ونائبة ووزيرة هو خير دليل على ذلك، والآتي أعظم من دون شكّ.

المستقبل ورؤية 2030

وبما أنّ المملكة تجد دائماً لنفسها خطّاً مميّزاً تسلكه بما يناسبها ويتناسب مع مكانتها العالميّة والإسلامية، جاء جيل الشباب الذي حلم به الملك عبد العزيز، وتجلّى في روح حفيده الأمير محمد بن سلمان، تحت قيادة الملك سلمان، ليثبت أنّ رؤية عبد العزيز للبلاد التي وحدّها هي نفسها التي ترتكز حول بناء الإنسان. فتخطّى طموح المملكة الآن حدود الزمان و المكان، في خطوات الثورة الاجتماعيّة و العلميّة و الاقتصاديّة والفنّيّة والثقافيّة.

وحيث أنّه بالمثل يُفهم المقال، فقريباً بإذن الله نرى مدينة المستقبل نيوم ومدينة ذا لاين ، أحدث مدن العالم تصيغ للبشرية أسلوب حياة القرن الثاني والعشرين.

فهنيئاً لنا هذا اليوم التاريخي وهنيئاً لنا هذا الوطن الحبيب. وأخصّ بالتهنئة جميع الشعب السعودي وحبيبنا الملك سلمان أطال الله عمره، وقائد مسيرتنا الأمير محمد بن سلمان ولي عهده الأمين وصاحب رؤية 2030 ... فكلّ عام وأنتم بخير والسعوديّة بخير وحبّ وسلام.

إقرئي أيضاً: إرث الإنسانيّة من قلب السعوديّة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث