مما لا شك فيه أنّ للعيش بين ثقافتين مختلفتين تأثير هام على نمط حياتنا وحواسنا وكيف ننظر الى العالم من حولنا. عائلتي تحب السفر كثيراً وتشدد على أهمية الاطلاع على ثقافة البلد الذي سنزوره قبل الوصول إليه. ولقد أدركت بفضل السفر المستمر أن العيش في مكان ما والانغماس في عاداته يختلف عن زيارته لقضاء عطلة قصيرة فيه. إن لتلك التجربة معنى أعمق فهي تغيرك وتساعدك على اكتشاف ذاتك الحقيقية والتعمق في فهم الأنماط الحسية لثقافتك . وإنني كامرأة، أرى بوضوح كيف تنظم الثقافة والمجتمع حواسنا وتفاعلاتنا. وتساعد نشأتنا في مجموعة ثقافية معينة على تفعيل أسس الحواس من التقاليد التي ولدنا وترعرعنا عليها. فيتبلور إدراكنا ليس فقط من خلال المعاني الشخصية بل أيضًا من القيم الاجتماعية التي نحملها معنا منذ نعومة أظافرنا. يحمل البصر قيمة ثقافية عالية، وغالبًا ما يُمجّد كحاسة "نبيلة" مرتبطة بالتنوير الفكري. فالعين تلتقط اللحظات الجميلة، وتخلق ذكريات دائمة. وإذا سمحت لها بالاستمتاع بالجمال بغض النظر عن القيود الاجتماعية، سترى العالم بطريقتك الخاصة، كلها تجارب تقوم على ما نراه و كيفية رؤية هذه الامور. ولطالما كان التنزه في الأحياء في باريس حيث كنت أعيش، والروائح الفريدة للمتاجر، والقصص في المتاحف والمعارض الفنية، كلها أمور تذكرني بالتراث الثقافي والاختلافات الجميلة التي تحتضنها كل ثقافة.
الإعداد: Esraa Alshatti
السمع، مثل البصر، يرتبط بقوة بالعقل. خلال دراستي، تعلمت أكثر من لغة الأمر الذي جعلني أدرك المشاعر العميقة التي تنطوي عليها كلماتنا، والإيقاع الفريد للغتنا العربية ذات الإيقاع الموسيقي. الكل يعلم أن الموسيقى تحرك المشاعر وتلهمنا بطرق لا يمكن للكلمات وحدها تحقيقها. تثير الثقافات المختلفة مشاعر وتجارب حسية متنوعة، مما يساعدنا على فهم جذورنا الثقافية. ولأن للحواس قيمة، فإن بعض المواضيع تثير مفاهيم ومشاعر معينة بسبب ارتباطاتها الثقافية. ثقافتك تشعرك بالراحة والأمان، ولهذا السبب يميل الناس إلى التواجد في مجتمعات ومجموعات مشابهة لهم بغض النظر عن مكان إقامتهم في العالم.
تنتقل الأفكار عبر الانطباعات الحسية طوال الوقت. ولحاسّة اللمس والذوق والشم تأثر بثقافة الفرد. ففي إحدى المرات، وأثناء تسوق العطور مع صديقتي وهي من بلد مختلف، سألني البائع إذا كنت عربية الأصل مستنداً إلى ما أحببت من عطور. أدركت في هذه اللحظة كيف تتأثر حاسة الشم بالثقافات التي ننتمي إليها، حيث أن الروائح العربية مُقدرة وفريدة، ومختلفة المفهوم من قبل الثقافات الأخرى.
تتجلى قيمة الحواس في مدى تأثيرها على حياتنا اليومية، وكيفية تفاعلنا مع الآخرين. إذ يمكن للرائحة أن تثير ذكريات قوية وتعيدنا إلى لحظات مميزة في حياتنا. وتعزّز الحواس وتتناقض أحيانًا مع بعضها البعض. كذلك يعزّز احتضان ثقافتنا وقبول الآخرين تفعيل المهارات الإدراكية. فالتذوق، بنكهاته وقوامه المتنوعة، يختلف عبر الثقافات. وللمس وهي الحاسة الخامسة تاريخ اجتماعي غني ودلالة رمزية ويمكنها أن تقوّي الروابط العاطفية بين الناس. على سبيل المثال، قد تحمل المصافحة معانٍ متعددة وفقاً للثقافات المختلفة. ففي بعض الثقافات، تكون المصافحة غير مناسبة، في حين يعد تبادل القبلات والعناق تحية شائعة في بيئات أخرى. كلها فروقات ثقافية تبرز أهمية فهم شامل للتجارب والتعبيرات الحسية.
تتجلى قيمة حواسنا في كيفية استخدامها وفقاً للثقافة التي تتفاعل فيها وتساعدنا على معرفة ثقافتنا الخاصة. فثقافتنا تشجعنا على احتضان حواسنا لتحقيق التوازن العاطفي وتكشف أحياناً الحاجة إلى نسيان بعض الأمور. إذ أنّ فقدان الإحساس يمكن أن يزيد من مخاطر الاكتئاب، لأن حواسنا تربطنا ببيئتنا جسديًا واجتماعيًا.
ونحن كنساء، علينا استكشاف العالم بنعمة حواسنا في كافة المجالات. فللحواس والممارسات الحسية المختلفة، سواء كانت بصرية، سمعية، لمسية، شمية أو ذوقية، أهمية صريحة أو ضمنية. وطرقنا في الإحساس وفهم العالم تعطي شكلًا وحياة لجوهر الثقافة.
بصفتي امرأة، أعتقد أن لتعزيز تجربتنا الحسية تأثير إيجابي على كيفية تفاعلنا مع العالم من حولنا. سواء كان ذلك من خلال التعليم أو الأدب أو الفن أو الموسيقى أو الطهي أو أي شكل آخر من أشكال التعبير الحسي، فإننا نكتسب فهماً أعمق لأنفسنا وللآخرين. إنها تجربة غنية ومجزية تساعدنا على بناء روابط أقوى مع الثقافات المختلفة وتعزز الشعور بالانتماء والمجتمع.
إقرئي أيضاً: مؤتمر مبدعي الخليج في جامعة Harvard
وعلينا أن نتذكر أن حواسنا هبة ثمينة تجعل حياتنا أكثر غنى ومعنى. من خلال احتضان تجربتنا الحسية والانفتاح على الثقافات الأخرى، يمكننا أن نعيش حياة أكثر توازناً وإثراءً، ونساهم في بناء عالم أكثر تفهماً وتسامحاً. دعونا نستمتع بحواسنا ونجعلها وسيلة لتعزيز التواصل والتفاهم بين الثقافات المختلفة.
الحواس ليست مجرد أدوات للإدراك، بل هي بوابات للتجارب الإنسانية العميقة والمعاني الثقافية المتنوعة. عندما نتعلم كيفية استخدام حواسنا بوعي، نصبح أكثر قدرة على تقدير الجمال والتفاصيل الدقيقة التي تحيط بنا. كذلك، يمكننا أن نتعلم كيفية الاستمتاع باللحظات الصغيرة والبسيطة في الحياة، كقراءة كتاب أو شرب قهوة الصباح.
من خلال تبني تجربة حسية شاملة، يمكننا أن نطور حسًا عميقًا بالانتماء والتواصل مع الآخرين. مما قد يساعدنا على تجاوز الفروقات الثقافية واللغوية، وبناء جسور من الفهم والتقدير المتبادل. إن الانفتاح على تجارب حسية جديدة يمكن أن يعزز قدرتنا على الإبداع والتعبير عن أنفسنا بطرق فريدة ومبتكرة.
إقرئي أيضاً: Ingie Chalhoub: " لديّ رؤية طموحة وتوسّعية للمستقبل "
