
يطلقون عليها بالتشيكية اسم "ماريانسكي لازني" ، وتعرف بالألمانية ومن قبل الأجانب ومنهم العرب باسم "مارينباد". إنها البلدة التشيكية القريبة من الحدود الألمانية التي تتميز بخصوبة أرضها، فهنا يتفجر من أرضها المعطاء الغاز الطبيعي، وهناك عشرات الينابيع للمياه المعدنية الباردة التي يساعد شربها على الشفاء من الكثير من الأمراض. ولم تكتفي الطبيعة عند ذلك، فأكلمت مسيرة إبداعها في كل زاويةٍ منها، فأحاطتها بجبال عالية وغابات دائمة الخضرة لتفتن وتسر قلوب ناظريها. إلى هذا الفردوس الساحر وصلت لأكون وجهاً لوجه مع مكان يولد الحب من النظرة الأولى.
إلى بلدة الينابيع
ما يقارب الساعتين بالسيارة كانت كافية لتنقلني من العاصمة التشيكية براغ إلى غرب منطقة "بوهيميا" حيث ترقد بلدة "مارينباد" التي نجحت منذ أكثر من 200 عام بتحويل نفسها من مكانٍ مغمور إلى بلدة ذات أهمية عالمية في مجال النقاهة والعلاج. كل شيء هنا يدعوك للراحة والاسترخاء، ويدفعك لتدخلين عالماً مثالياً لا يشبه سواه، بأوقاته االسعيدة ولحظاته الرومانسية المجبولة بالصفاء والسعادة. في رحابها يعيش حوالي 14 ألف نسمة، ويتوزعون في منازل أبدع من صممها بجعلها تحفة معمارية تستحق الثناء. والشيء نفسه ينطبق على فنادقها الأنيقة التي استقبلت ملوك وأمراء أوروبيين، ولحق بهم فيما بعد ألمع الشخصيات من العالمين العربي والغربي. في وسط البلدة وعلى مقربة من "النافورة الغناء" التي تتراقص على إيقاع خرير الماء المتصاعد، ستكونين أمام تمثال برونزي للكاهن "كاريل كاسبار رايتنبرغر" الذي عاش بين عامي 1860-1779، نقشت باللاتينية على قاعدته المصنّعة من الرخام السويدي الأحمر العبارة التالية: "هذا هو الرجل الذي اكتشف المنافع العلاجية للمياه المعدنية وشجع على الاستفادة منها. ولذلك يستحق أن يمنح لقب مؤسس البلدة". وبالواقع، فتلك المياه هي مصدر ثروة "مارينباد" وهي التي منحتها شهرتها العالمية. وتختزن أرضها عشرات الينابيع للمياه المعدنية، كينبوع "كروس سبرينغ" Cross Spring الذي سيأثر ناظريك بهندسته التي تشمل على 72 عاموداً من الطراز الأيوني، انتهى تشييدها في العام 1826. وتتميز مياهه بمقدرتها الفعالة في زيادة مرونة الأوعية الدموية. بجواره تتفجر مياه نبع "كارولينا" Karolina Spring المظلل بقبة بهية الشكل تحرسها ثمانية أعمدة كورنثية الطراز، وهو شهير بمياهه المعدنية الغازية التي تحتوي على المغنيسيوم. أما نبع "رودولف" Rudolph Spring فلمياهه المقدرة على معالجة أمراض المسالك البولية. ومن المعروف أن لكل نبع في "مارينباد" خصائصه الفريدة لمعالجة حالات مرضية معينة أو بعض المشاكل الصحية. ومن الأفضل الاستفسار من قبل الطبيب أو الأخصائي عن فوائد كل منهم والجرعات اللازمة قبل الغوص في تجربة التداوي بماء الينابيع.
إقامة ملوكية
عند سؤالك أي شخص في "مارينباد" عن أهم وأعرق فنادقها سيكون الجواب مماثلاً: "دانوبيوس هيلث سبا ريزوت نوفيه لازنيه" الذي بناه "كارل كاسبار رايتنبرغر" في بداية القرن التاسع عشر. ستجدين فيه الحمامات الرومانية القديمة، إلى جانب حجرة تحمل إسم الملك البريطاني "إداورد السابع"، وأخرى بإسم الإمبراطور النمساوي "فرانتس جوزيف الأول". فكلاهما كانا يقصدان المنتجع للنقاهة ولشرب الماء العذب من الينبوع الذي يتدفق في أروقته. بجواره ستلمحين فندق "سنترالنيه لازنيه" المعروف بأنه مصدر نبع "ماريا" وأول فنادق البلدة الذي شيد بعدما لمع نجم "مارينباد" كبلدة للينابيع المعدنية. يضم الفندق جناحاً جديداً أطلق عليه إسم "ماريا سبا"، ومنه تنبعث غازات ثاني أكسيد الكربون المعروفة بـ"غازات ماريا"، بحيث يتم ضخها بواسطة أنبوب لإحدى الغرف المخصصة للعلاجات الصحية، كتلك التي تعنى بتحسين الدورة الدموية، وتساهم في تنشيط الكلى، كما لها الفضل في محاربة الإلتهابات وتخفيف الألم.
سلسلة أماكن الإقامة الجيدة في بلدة الينابيع تكاد لا تنتهي، منها منتجع "هيلث سبا ريزورت هفيزدا" الذي يحمل بصمات الماضي بهندسته التي ترقى إلى العام 1905. ويعرف أن الأديب الألماني الشهير "غوته" إلتقى صديقته "أولريكا" في هذا المكان الذي كان يتردد عليه أيضاً الملك البريطاني "إدوارد السابع". في مسبح "هفيزدا" المعروف بأنه أكبر مسابح "مارينباد" ستنعمين بأوقات لا تنسى. كما سيطيب تذوق الأطباق التشيكية والعالمية في مطعمه الذي يحمل إسم "فرانتس جوزيف وسيسي". وبذلك تبدو البلدة وفية لمن مروا على أرضها من شخصيات تاريخية، فكرمتهم بإطلاق أسمائهم على ساحاتها، وطرقاتها، ومنتجعاتها السياحية، وحتى على مطاعمها المحلية.
معالم تستحق الزيارة
ستنتقلين بسرعة البرق إلى القرن التاسع عشر فور دخولك "متحف البلدة" Town Museum الذي شيد في العام 1818 كمكان للإستراحة بعد إستخدام المنتجعات الصحية. وسوف يستقبلك تمثالاً برونزياً ل"غوته" عند مدخل الطابق الأول تخليداُ لذكراه. كما يحافظ على الغرفة التي كان يستريح فيها الأديب الألماني في العام 1828. في ظلال المتحف ستكونين أمام صور للشخصيات التي مرت فيه، إلى جانب صور للبلدة ولمنطقة غرب "بوهيميا". كما يضم معروضات من الزجاج، والخزف الصيني، وعلب حديدية. ويخصص المتحف قسماً لعرض كيفية استخدام مياه الينابيع المعدنية وكيفية تعبئتها. كما يعرف زواره على التطور الجيولوجي في المنطقة والمعادن الموجودة فيها، ومصادر المياه، والفرق بين أصناف المياه والمنافع الطبية لكل منها. وبعيداً عن مياه "مارينباد" ومنافعها التي قد لا تنتهي، ندعوك بالمرور إلى الطرف الشرقي من البلدة حيث يترامى منتزه "بوهيمينيوم" الذي يضم على بساطه الأخضر أهم المباني التاريخية والمعالم الفنية في جمهورية التشيك ولكن بأشكال هندسية صغيرة لا يتعدى طولها المتر ونصف، بينهم قصور، وقلاع من القرون الوسطى، وبيوت تقليدية، وكاتدرائيات، وكنائس، وطواحين للهواء شبيهة بتلك الموجودة في هولندا، والمراكب التي تستخدم لإطفاء الحريق في البواخر، وطائرات بوينغ، ونماذج لينابيع "مارينباد". وقبل مغادرة البلدة ننصحك بألا تفوت زيارة المبنى المعروف بـ"كولونيد". إنه صورة واضحة عن الهندسة الباروكية التي سادت في أوروبا بين أواخر القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن الثامن عشر. يفيض المبنى بأدق التفاصيل الهندسية، فزين سقفه بالرسومات وتوزعت القناطر المزخرفة بحرفة عالية على طوله، حيث ستشعرين وأنت تمرين قربها وكأنك في بهو قصر كبير. وتلك المباني هي حاجة لا بد منها في مدن الينابيع في جمهورية التشيك وفي بعض المدن الأوروبية، لأنها تشيد على مقربة من الينابيع لإضفاء مسحة جمالية على تلك الأماكن لتلتقي روعة الطبيعة مع عظمة البناء وليعزفان معاً سيمفونية
حب لا تنتهي.
إعداد: جان بيار حبيب