يربّينَ أطفالنا... بعيداً عن أطفالهنّ

شيريل امرأة فيليبينيّة، وشأنها شأن الملايين من نساء بلدها. غادرت موطنها وعائلتها لتعمل مربّية. وتهتمّ اليوم بجوزيف، ابن ألكسندرا الذي تعتبره ابنها، فتوليه كلّ الاهتمام الذي للأسف تعجز أن تمنحه لأطفالها. وتروي قصّة شيريل وألكسندرا الصراع الداخليّ الذي تعيشه كلّ امرأة توكّل امرأة أخرى مهمّة حضانة أطفالها.

الإعداد: Valentine Faure

التصوير: Ambroise Tezenas

في البداية، عملت شيريل وزوجها في أحد الفنادق في أستراليا، هي نادلة وهو في المطبخ. ثمّ عاد الثنائيّ إلى الفيليبين، وقرّرا أن تسافر هي إلى خارج البلاد للعمل، وأن يبقى هو للاهتمام بأولادهما الثلاثة. وكانت ابنتهما الصغرى تبلغ من العمر 11 شهراً فقط آنذاك، ولا تنسى شيريل يوم 23 سبتمبر 2012 عندما قبّلت أولادها النائمين وغادرت في منتصف الليل إلى المطار. فتقول: "كنت أعلم أنّني ربّما لن أراهم ولن أضمّهم قبل سنوات كثيرة. وعلمتُ أنّهم سيستيقظون في اليوم التالي ويسألون عنّي".

في أكتوبر 2013، ولد جوزيف، طفل ألكسندرا وكليمان الأوّل. واليوم بعد مرور4  سنوات، تقول ألكسندرا: "كانت الأمومة بالنسبة إليّ أشبه بعالم مظلم. أنا طفلة وحيدة وليس لديّ إخوة. فعندما خرجت من المستشفى بعد الولادة وطفلي بين يديّ، ذُعرت واحتجت إلى بعض النصائح وإلى شخص يساعدني في مهمّتي". وكان الثنائي الفرنسيّ هذا قد وظّف شيريل قبل فترة وجيزة من ولادة جوزيف. تعمل  الأمّ مديرة في إحدى الشركات، لذا لم تحظَ بإجازة أمومة فعليّة.  وبدأت شيريل بالعمل لدى العائلة بدوام جزئيّ. وعندما بلغ جوزيف عمر الشهرين، أصبحت تعمل بدوام كامل. أمّا راتبها فترسل الجزء الأكبر منه لزوجها وأهلها وحمويها، وتردّ تكلفة تذكرة السفر وتدفع جزءاً من إيجار الغرفة التي تتشاركها مع ثلاث نساء أخريات. وتتصّل شيريل يوميّاً بزوجها وأولادها عبر Skype. وعندما تبدأ بالتكلّم مع ابنتها تجيبها فوراً قائلة: "أنت لست أمّي، ماما مونيك هي أمّي (أي جدّتها، أمّ أبيها)".

إقرئي ايضاً:سينما Ouarzazate

انتقال المشاعر

يكبر تسعة مليون طفل فيليبينيّ بينما يغيب أحد الوالدين للعمل خارج البلاد. وفي العقد الماضي، ثلاثة أرباع العمّال المهاجرين هم من النساء. ففي مجال "الخدمات المقدّمة إلى الأفراد"، أي مجال الرعاية، يكثر الطلب على الفيليبينيّات بشكل خاصّ. فهنّ يشترهنَ بتفانيهنّ وحسّ الأمومة لديهنّ، وهنا يظهرالتناقض الكبير، إذ إنّ هذه الأسباب بالذات هي نفسها أساس هذه التضحية وأساس ابتعادهنّ عن عائلاتهنّ الخاصّة. ويزيد ذلك أيضاً من أهميّتهنّ وتميّزهنّ. فهنّ خبيرات في مجال العناية، وليس لديهنّ عائلات ليهتممنَ بها، فضلاً عن أنهنّ متفانيات ومتاحات دائماً ويمكن الوثوق بهنّ. ونتمنّى في السرّ أن ينقلنَ شعور الأمومة ويمنحنَه للأولاد الذين يهتممنَ بهم ويحببنَهم كأولادهنّ.

وكتبت Barbara Ehrenreich في العام 2003: "إنّ عولمة رعاية الأطفال والأعمال المنزليّة تجمع إلى حدّ ما بين النساء الطموحات والمستقلّات في العالم: بين المرأة التي تنتمي إلى الطبقة المتوسّطة من أحد البلدان الغنيّة والتي تركّز على حياتها المهنيّة من جهة، والمرأة التي تأتي من أحد بلدان العالم الثالث من جهة أخرى. لكنّ

العولمة لا توحِّد هؤلاء النساء كما في الموجة النسويّة الثانية، التي تتحالف فيها النساء للمكافحة من أجل تحقيق أهدافهنّ المشتركة. فبدلاً من ذلك، يتوحّدنَ بطريقة أخرى، فتجمعهنّ علاقة المسؤولة بالخادمة، وصاحبة العمل بالموظّفة بالرغم من الفجوة الهائلة في الامتيازات والفرص المتاحة لهنّ".

إقرئي أيضاً:هكذا تواجهين الضوضاء في مكان العمل

شراء السلام الداخلي

تعترف ألكسندرا قائلة: "أشعر بالذنب لأنّ شيريل بعيدة عن أولادها. لذا أشتري راحة البال والسلام الداخليّ، فأتعامل معها بكرم وأقرضها مبالغ كبيرة من المال. وتتراكم عليها الديون دائماً، إذ لا يتبقّى لها المال الكافي لا سيما أنّها تعيل ثلاث عائلات". وبالنسبة إلى ألكسندرا، إنّ التوفيق بين راحة الضمير وضرورة الحصول على المساعدة هو الثمن الذي تدفعه مقابل الاستمرار في العمل. فلم تفكّر يوماً في التراجع عن عملها بعد أن أصبحت أمّاً. وعندما سألنا شيريل ما إذا تعتبر نفسها ربّة عائلتها أم لا، أجابتنا بعد الكثير من التفكير: "إجل، يمكنني أن أعتبر نفسي ربّة العائلة حتّى لو أنّني بعيدة عنها، لكنّني أعمل بجدّ من أجلهم. فإذا أراد أفراد عائلتي أن يأكلوا أو يشتروا غرضاً ما، يمكنهم فعل ذلك بفضلي أنا. لذا، أنا ربّة العائلة، نعم".

وفي شهر يناير من العام 2017، قرّرت ألكسندرا وزوجها كليمان أن يقدّما إليها تذكرة سفر إلى الفيليبين. وكانت قد مرّت خمس سنوات منذ أن رأت شيريل أولادها. وأرادت أن تذهب في شهر يونيو لدى بداية السنة الدراسيّة. فتخبرنا قائلة: "أردت أن أعيش تلك التجربة التي أهتمّ فيها بكلّ التفاصيل المتعلّقة بأولادي. فأسيقظ وأحضّر لهم الفطور وألبسهم وأقودهم إلى المدرسة ثمّ أعدّ لهم الغداء وأعيدهم إلى المنزل. كان ذلك رائعاً جدّاً، ولا يسعني وصف شعوري بالكلام. فمرّت خمس سنوات منذ أن فعلت كلّ ذلك من أجلهم." وتضيف قائلة: "كلّ الاهتمام الذي أعجز عن منحهم إيّاه أقدّمه إلىجوزيف. فيمكن القول إنّني أعتبره ابني. أنا لم أنجبه، لكنّني أحبّه كابني". ولدى عودتها إلى الفيليبين، اكتشفت المنزل الذي تدفع ثمنه بعرق جبينها وبشقائها خارج البلاد. وبعد مرور شهر كامل، حان الوقت لتغادر من جديد.

إقرئي أيضاً:مهندسة الفضاء العربيّة الأولى : سعوديّة

وسيحين وقت الفراق قريباً، إذ هذا هو مصير كلّ المربّيات اللواتي يهتممنَ بأولاد الآخرين. فيبلغ جوزيف من العمر أربع سنوات وتربيته تصبح أصعب بالنسبة إلى شيريل التي لا تجيد جيّداً التكلّم باللغة الفرنسيّة. ولهذا السبب أيضاً، تحاول ألكسندرا أن تجد الطريقة الفضلى للتعامل مع هذا الوضع، فتقول: "عندما أفكّر في إنجاب طفل آخر، أفكّر في أنّه عليّ فعل ذلك من أجل شيريل".

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث