الإعداد: Joe Challita
في ساحة الابتكار والاستكشاف المتقدم، حيث تكسر صناعة الأزياء حواجز كل فريد وجديد، تبصر حقيقة مؤثرة النور، ألا وهي أهمية التعمّق في جذورنا. وبينما يمضي العالم قدماً نحو أعماق إبداع تفوق الوصف، يتجلّى لنا بوضوح مدى التشابك المتجذّر لهويتنا مع ماضينا. وفي عالم الموضة، وفي خضم السعي لترك بصمة خالدة ولخلق أسلوب مميز ولتأسيس علامة تجارية راسخة، يجد المصممون أنفسهم متأصّلين في جذور تراثهم.
يلخّص التراث طبعاً جوهر أصولنا ويوفّر أساساً صلباً تُبنى عليه هويتنا. وفي ميدان صناعة الأزياء، حيث قد تتطور الصيحات بوتيرة سريعة، يشكل التراث قوة ثبات واستقرار، مسافراً بنا الى زمن القيم والجمال الخالد الذي نسج رحلتنا. فتصبح مسألة الهوية والتراث ملحوظة خاصةً مع تقدم مؤسسي العلامات التجارية في العمر، ممّا يثير سؤالاً حاسماً: من سيرث تراث العلامة؟ هذه هي اللحظة التي يقف فيها الأبناء، والبنات، وبنات الإخوة وأبناء الإخوة أو أي فرد من أفراد العائلة أمام خيارين حاسمين: إما تحمّل المسؤولية أو مواجهة العبء الكبير للحفاظ على الماضي أثناء توجيه العلامة نحو المستقبل.
ولا يمكننا القول بأن سلالة الموضة هي مجرّد قصة للتصاميم المعاصرة وأهميتها في السوق، بل هي رواية ترنو بصداها إلى عمق الماضي. وتقدّم النظرة الثاقبة إلى العلامات التجارية العائلية الشهيرة على مستوى العالم رؤية عميقة في العلاقة الجدلية بين التراث والهوية في قلب العلامة. وتجسّد هذه الدور الأيقونية للأزياء، التي غالباً ما تمتدّ عبر الأجيال، الإرث الدائم الذي يشبك ما بين التقاليد العائلية والشخصية المميزة والطابع الفريد للعلامة التجارية.
وفي الشرق الأوسط، أصبحت دور الأزياء المشهورة عالميًا مثل دار Elie Saab وGeorges Hobeika رمزاً للأسلوب والأناقة، ممثلةً الشركات المتأصلة بعمق في أسس التراث العائلي.
أنشأ المصمم اللبناني الشهير Georges Hobeika، المعروف بتصاميمه الحالمة والرومانسية، علامة تجارية تُعد كدار أزياء لبنانية فاخرة متعدّدة الجنسيات، متخصّصة في الملابس الراقية والجاهزة. وينبع شغفه بالموضة من والدته، التي كانت خيّاطة وشجّعت أطفالها على مساعدتها في مشغلها الخاص. أعجب Hobeika بمهنة والدته وسار في الدرب ذاته وانطلق إلى باريس، حيث اكتسب خبرة لا تقدر بثمن كمتدرب في دور أزياء شهيرة. وعند عودته إلى لبنان، أسس مشغله الأول في بيروت في عام 1995. وفي هذه الفترة، قررت والدته إغلاق مشغلها، موجّهة زبائنها الى مشغل ابنها. وتعاون الثنائي لتأسيس علامة أزياء، مما شكّل انطلاقة لامعة لمسيرة Georges Hobeika المرموقة في عالم الأزياء الراقية. وبعد سنوات من عرض تصاميمه الرائعة في باريس، أصبح معترفًا به رسميًا كعضو ضيف في Chambre Syndicale de la Haute Couture.
في يونيو 2022، وبمناسبة الذكرى السابعة والعشرين على تأسيسها، قدمت الدار Jad Hobeika البالغ من العمر 26 عامًا، لينضم رسمياً إلى والده كمدير إبداعي مشارك، وأشارت الدار في بيان صحفي: "شارك Jad في العملية الإبداعية للدار منذ عام 2019، بدءًا من مجموعة Birds of Paradise لخريف وشتاء ذلك العام. وسيعمل الآن جنباً إلى جنب مع والده على قدم المساواة، متشاركين في مسؤوليات تصميم المجموعات واستراتيجيات الأعمال على حد سواء". وبدوره، صرح Jad Hobeika على صفحة العلامة التجارية الرسمية: "إنه لشرف كبير أن أكون جزءًا من هذه الرحلة، وأن أساهم في تطوير دار أزياء مزدحمة بالأحلام والإبداع". ولم يتعلّق هذا القرار الاستراتيجي بالحفاظ على الدار داخل العائلة فحسب، بل أيضاً بالاستفادة من وجهات نظر جيل الشباب. وتتناغم تصاميمه وأفكاره مع توقعات موجة جديدة من زبائن الأزياء الراقية، مما يجعل هذه الخطوة بمثابة جهد متعمّد للحفاظ على الانسجام مع الأذواق والتفضيلات المتطوّرة.
وبينما تخضع الشركات لعمليات التحديث وتنجح في توارث المناصب ببراعة من جيل إلى آخر، يظل تأثير الماضي الراسخ الذي لا يمحى حاضراً في أسلوب العلامة التجارية المميز. وفي هذا التقاطع بين الماضي والحاضر يتجلّى السحر الحقيقي للعمل العائلي في صناعة الأزياء.
وفي السياق نفسه، أطلق المصمم اللبناني Elie Saab علامته التجارية في بيروت في عام 1982 عندما كان في الثامنة عشرة من عمره. ومن خلال الجمع بين الجماليات الغربية وأسلوب الزخرفة والتطريز الشرقي، سرعان ما وصل صعب إلى الشهرة العالمية وكان أول مصمم غير إيطالي يتم قبوله في Camera Nazionale della Moda، الهيئة الإدارية لأسبوع الموضة في ميلانو، حيث عرض تصاميمه عام 2003. وفي العام نفسه، تم تعيينه كعضو في Chambre Syndicale de la Haute Couture في باريس - وهو امتياز حصري يُمنح إلى نخبة قليلة من المصممين في العالم.
وانخرط ابنه، Elie Saab Jr.، في أعمال والده في سن الخامسة عشرة. وفي البداية تولى دوراً صامتاً كمراقب، حيث فهم تفاصيل الصناعة الدقيقة عن بعد. ومن خلال الدراسة المخصّصة والدورات الإضافية، تطور ليصبح القائد الذي هو عليه اليوم، حيث يتولى الآن دوراً قيادياً في الشركة ويحافظ على الإرث الذي بناه والده على مدار 40 عاماً. ومنذ عام 2019، أطلقت الشركة مشاريعاً متنوعة، ووسًعت نطاق عملها إلى ما هو أبعد من جذورها في مجال الأزياء الراقية. يتضمن هذا التوسع دخول مجال الديكور والعطور وملابس الأطفال والأثاث والعقارات، مما يظهر تنوعاً استراتيجياً لتلبية الاحتياجات المتطورة للسوق الديناميكي. وتشكّل قيادة Elie Saab Jr. استمراراً سلساً لإرث العلامة التجارية، مع حرصه الشديد على الابتكار والتكيف مع الصيحات المعاصرة، حيث أنه ارتقى بالعلامة التجارية إلى لائحة أفضل 5 علامات تجارية فاخرة تفرّعت إلى مجال الأثاث والديكور، مع الحفاظ على هوية الشركة وقيمها ورؤية الأب المؤسس.
والهوية تكمن في الجذور، وتجسّد الشركات العائلية في صناعة الأزياء هذه العلاقة التكاملية. وتخلق خيوط التقاليد المتشابكة مع نسيج الحداثة تحفة من التميز، تتمثّل في علامة تجارية لا تمثل الحاضر فحسب، بل تشكّل شهادة
على إرثها التاريخي.
وفي عبورنا إلى القارة الأمريكية، نصادف العلامة التجارية الكلاسيكية والخالدة Carolina Herrera، التي تعتبر نموذجاً مثالياً آخر لشركة عائلية تعمل في مجال الأزياء. وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، أضحت الفنزويلية Carolina Herrera واحدة من أبرز مصممي العالم، وحازت على الكثير من الأوسمة وجمعت معجبين بارزين بتطورها الفريد وأناقتها الأمريكية المثالية. تأسست الشركة في نيويورك في عام 1980 وازدهر نجاحها على مر السنوات، حيث حققت إنجازات هائلة على مدى 37 عامًا في مجال الأعمال. وترحبHerrera بابنتَيها في الأدوار التنفيذية في الشركة العائلية، فمنذ عام 2011، شاركت Carolina Herrera Jr. و Patricia Lansing في التوجيه والتصميم الإبداعي، وتشغل Carolina Herrera Jr. حاليًا منصب المدير الإبداعي لقسم الجمال، حيث أطلقت أول عطر للعلامة التجارية في العام 1997. وتمثل هذه الخطوة قراراً طبيعياً وسليماً، نظراً لأهمية تولي كل المهام داخل نطاق العائلة في ساحة الأعمال التجارية.
وبالانتقال إلى أوروبا، تتباهى دور الأزياء مثل Missoni بفخر تاريخها الذي يمتد لثلاثة أجيال. نشأت الدار في عام1953 على يد مؤسسَيها OttavioوRosita Missoni. وبدأت رحلة هذه العلامة التجارية كمتجر للملابس الصوفية في إيطاليا، ومنذ ذلك الحين، اشتهرت بتصاميم الحياكة النابضة بالحياة وأنماطها المتموجة المميزة وزخارفها الساحرة. انضمت الحفيدة Margherita Missoni، إلى عالم أجدادها تتبعاً لخطى والدتها Angelaمن قبلها. وفي البدايات، كان لكلّ منهما خطط مختلفة، لكنهما انجذبتا في النهاية إلى كيان العائلة. ومنذ سنّ المراهقة، تألّقت Margherita كسفيرة مثالية لعائلتها، حيث كانت عدسات الصحافة ترصد دائماً إطلالاتها المميزة بتصاميم Missoni. وفي عام 2018، أسندت لها مهمة المديرة الإبداعية للشركة، وهو تطور طبيعي في مسيرتها المهنية في الدار.
ومن ناحية أخرى، في قلب عالم Armani، انضمت الأختان Roberta وSilvana Armani إلى عالم الموضة الذي أسسه عمهما Giorgio Armani. عملت الشقيقتان لسنوات جنبًا إلى جنب مع عمهما، وهما ابنتا Sergio، الأخ الأكبر لـ Giorgio. بدأت Silvana العمل في علامة Emporio Armani ثم تفرعت لاحقًا إلى التصميم لجميع الفئات تحت مظلة Armani. وهي تتولى منصب المديرة الإبداعية لشركة Emporio Armani كما أنّها عضو مجلس إدارة في Giorgio Armani.
من ناحية أخرى، تشغل Roberta دور المديرة العالمية للعلاقات العامة للشركة، وقد حققت إنجازات بارزة جعلت الشركة تتقدّم بشكل ملحوظ في القرن الواحد والعشرين، وأسست علاقات قوية مع هوليوود. فعلى سبيل المثال، صمّمت إطلالة Lady Gaga في حفل توزيع جوائز Grammy في عام 2010 بتصميم مستوحى من السماء، وتعاونت معها أيضًا في مجموعة الملابس الرجالية في عام 2011. وقد دفعت هذه الخطوات الاستراتيجية بالعلامة نحو القمة، وذلك بفضل انضمام جيل جديد من داخل العائلة إلى الشركة.
واحدة من الشركات الإيطالية الأخرى المتجذرة في العائلة هي Marni التي تأسست في عام 1994 في مدينة ميلانو الإيطالية، على يد المصممة السويسرية Consuelo Castiglioni وزوجها Gianni الذي انضم إليها. وبعد تحقيق نجاح باهر، انضمت ابنتهما، Carolina Castiglioni ، إلى الشركة كمديرة للمشاريع الخاصة في البداية، حيث كانت تشرف على الاستراتيجيات الرقمية للعلامة التجارية قبل أن تتوسع في مجال التصميم.
وفي عام 2016، قررت Consuela التنحي عن إدارة الشركة، والتي تم بيعها في نهاية المطاف. بعد هذا التحول، فشرعت ابنتها Carolina في إنشاء علامتها التجارية الخاصة. وفي عام 2018، أطلقت علامتها التجارية، التي تحمل اسم Plan C، وحولتها إلى مشروع عائلي آخر. وبصفتها المديرة الإبداعية، تولى والد Carolina دور الرئيس التنفيذي، بينما انضم شقيقها إلى منصب مدير العمليات.
ومن جهة أخرى، تُعتبر Manolo Blahnik رمزاً للشركات البريطانية التي تديرها العائلة. ويُعدالمؤسّس أحد أهم مصممي الأحذية على الإطلاق. وفي عام 2007، تم تعيين Blahnik كقائد فخري لوسام الإمبراطورية البريطانية لخدمته في صناعة الأزياء البريطانية. نبع شغفه بالموضة من والدته التي كانت تصنع أحذيتها بنفسها. وكان يحب مشاهدتها وهي تصنع الأحذية الجميلة، وقد ورث حب والدته للأقمشة الفاخرة والحريرية. في العام 2013، انضمت ابنة أخت Blahnik ، المهندسة المعمارية السابقة Kristina Blahnik إلى الشركة كنائب للمدير التنفيذي. ومنذ ذلك الحين، وبفضل رؤيتها، تردد صدى الشركة عالمياً أكثر من أي وقت مضى. وكانت هي العقل المدبر وراء فكرة إطلاق The Craft Room، وهي تجربة افتراضية رقمية تحتفل بالتصاميم المذهلة التي ابتكرها Manolo على مدى أكثر من 50 عامًا بالإضافة إلى الحرفيين الذين يساعدون في تحقيق كل تلك الإنجازات.
يمكن للمرء أن يكشف الخيط الساحر المحبوك في النسيج المتنوع لهذه العلامات العالمية القادمة من كل أرجاء الأرض والتي تشترك في الالتزام الهائل بتكريم تراثها الثري وحمايته. ومع توسّعها وتطوّرها ووصولها إلى العالمية، تتكامل عبر بناء روابط متينة تتجاوز الحدود مع الآخرين. وفي سعيها للوصول، يكمن جمالها الحقيقي في قدرتها على البقاء وفية لجذورها. ويتوارى جوهر الجمال الحقيقي في التوازن الدقيق بين تميّزها الفريد وتطورها لتصبح أيقونة لتراثها الخاص. ومن الضروري الحفاظ على الهويات الفردية، حيث أن دمج اختلافاتنا وأساليبنا الفريدة هو ما يجعل العالم جميلاً حقًا. فتشكّل هذه الشركات العائلية حرّاساً للإرث الخالد، وتضمن تداخل أصداء الماضي بسلاسة مع إيقاع الحاضر.
اقرأي أيضاً: A Botanist with A Heart: Preserving Beauty, One Print at A Time