طقوس النهايات
هناك شيء ساحر في النهايات، ليس لأنّها تقفل الباب على ما مضى، بل لأنّها تَعِدُنا بفرصة للبدء من جديد. النهايات ليست نقطة توقّف، بل منعطفاً يربطنا بحلقات الحياة التي لا تنتهي.
مها خالد طيبة، مستشارة في الاستراتيجيّة والقيادة وجودة الحياة ومؤسسة شركة "رُمَّان"
كلّ شيء في حياتنا له نهاية: عام يمضي، علاقة تذبل، مشروع ينتهي، وحتّى كلّ يوم يُختتم بساعاته الأخيرة. لكن كيف نواجه هذه النهايات؟ هل نتركها تمرّ كحدث عادي، أم نمنحها طقوساً تليق بما حملته من معانٍ وتجارب؟ لكلّ نهاية طقوسها التي تناسبها. بعضنا يودّع عاماً مضى بكتابة رسالة شكر لكلّ ما حمله من أفراح وأوجاع. آخرون يودّعون علاقة انتهت بتخصيص لحظة للتصالح الداخلي مع الذات ومع الآخر. في ما يلي بعض الطقوس التي أحبّها...
الطقس الأول: النهاية فرصة للتفكّر والتخطيط
أوّل ما تقدّمه لنا النهايات هو فرصة للنظر إلى الوراء. لحظة لنقيم ما عشناه، ما تعلّمناه، وما لم نتمكّن من تحقيقه. هذه الطقوس تبدأ بصمت داخلي، وبسؤال للذات:
- ماذا علّمتني هذه التجربة؟ - ما الذي أريد الاحتفاظ به؟ - وما الذي أحتاج للتّخلي عنه؟
التفكّر، والتدبّر والاستنتاج هي أدوات هذا الطقس التي تحرّرنا. إنها تضيء الزوايا المظلمة، وتمنحنا الحكمة لنستقبل القادم بروح أنقى ومنظور مختلف. وتنصح المؤثرة ميل روبنز والتي اشتهرت بناصئحها في مجال الإنتاجية والمثابرة، أنّنا إذا كنّا على مشارف توديع سنة من حياتنا مثلاً أن نستخدم طريقة "ابدأ - توقّف- استمرّ" وهي طريقة بسيطة لتوضيح الرؤية. فنبدأ بأشياء بسيطة نريد أن ندمجها في جدولنا اليومي شيء تلو الآخر حتى يصبح عادة. ونتوقف عن فعل أشياء بسيطة السنة القادمة، فنسقطها من جدولنا نهائياً لأنّها ترهقنا أو تضيّع وقتنا وتثقلنا عن المكان الذي نريد أن نصبو إليه. وأخيراً الاستمرار في أشياء -بفضل الله- رُزقنا القيام بها إمّا بسلاسة أو بجهد، ولكننا نحققها ونريد أن نحافظ عليها فتستمرّ في حياتنا. ونحن نستعدّ لتوديع سنة حملت معها أفراح وأوجاع فلنبدأ بصياغة رؤيتنا للعام القادم. لا أتحدّث هنا عن قرارات صارمة أو أهداف ضخمة تُثقل الروح، بل عن نوايا بسيطة، نوايا صادقة. نوايا نبدأ فيها عادات جديدة ونتوقّف عن عادات لا تخدمنا ونستمرّ على عادات رزقنا بقدرتنا على المواظبة عليها.
الطقس الثاني: أن تُكرّم ما مضى
برأيي الطقس الأهمّ هو أن نكرّم ما مضى، حتى لو كان مؤلماً. نكرّمه بأن نمتنّ لكلّ صغيرة وكبيرة في حياتنا وأن ندرك يقيناً أنّ كلّ ما أصابنا هو الخير التامّ لنا وأنّ الحكمة موجودة بلا شك. إمّا أن ندركها أو تبقى خفيّة يعلمها مدبّر الكون سبحانه. والامتنان وشكر النعم هي بوليصة تأمين ضدّ الفقد والخسارة. فنشكر باللسان وبأفعالنا فنكون قد ضمنا دخول سنة جديدة بكرم وطمنأنينة وسكون.
الطقس الثالث: التخلي وفنّ التحرّر
النهايات تعلّمنا أنّ الحياة ليست قائمة بما نضيفه إليها فقط، بل بما نتخلّى عنه أيضاً. تخيّل حقيبة مليئة بأشياء لم تعد تحتاجها. علاقات تستهلك طاقتك، مشاعر تثقل قلبك، أو حتى أهدافاً لم تعد تعنيك. حان الوقت لتفريغ هذه الحقيبة، لأنّك لن تحتاجها في رحلتك القادمة.
الطقس الرابع: النهاية كبداية متنكّرة
أجمل ما في النهايات أنها ليست نهاية فعليّة. في طيات كلّ وداع، بذرة لبداية جديدة. كلّ عام يمضي يحمل معه وعداً بفرصة جديدة، وكلّ علاقة تنتهي تفتح المجال لمساحة من النمو الداخلي.
إنّ طقوس النهايات ليست مجرّد أفعال نقوم بها، بل هي طريقة لنقول للحياة: "أنا مستعدّ للخطوة التالية." إنّها إعلان للكون أنّنا نتقبّل التغيير ونرحّب بالمجهول.
في المرّة القادمة التي تجد نفسك أمام نهاية، لا تخف. انظر إليها بعين الاحتفاء. امنحها وقتك، تأملك، وامتنانك. ثم امضِ بثقة نحو الفصل الجديد من حياتك، لأنّك الكاتب الوحيد لقصة تستحقّ أن تُروى.
إقرئي أيضاً: اهمية هرمونات السعادة الأربعة في حياتنا وأثرها على جودة الحياة