العلا في حوار مع العالم

Jabal AlBanat 

يشكّل موقع الحِجر الأثري الموقع الأوّل في المملكة العربيّة السعوديّة الذي يُدرَج على قائمة التراث العالميّ. حيث تمّ إدراجه على لائحة اليونسكو للتراث العالميّ في العام 2008، بعد وثائق الترشيح التي قدِّمَت في العام 2007. كما أنّه أكبر موقع تمّ الحفاظ عليه لحضارة الأنباط جنوب البتراء في الأردن، ومثال هائل على الإنجاز الهندسيّ للأنباط والخبرة الهيدروليكيّة التي تمتّعت بها هذه الحضارة. واليوم تبرز منطقة العلا كمفترق طرق متجدّد للثقافة تجمع القديم في حوار مع الحديث... وهذا يجعلها فعلاً واحدة من أبرز الوجهات السياحيّة في المملكة! وسواء أن سبق لك وزرتِ العلا أو لا، سنصطحبك في هذا التقرير في رحلة عبر الزمن لاكتشاف المزيد عن تاريخ هذه المنطقة وعن تطوّرها وثقافتها وتقاليدها، وكيف أثّرت على الثقافة السعوديّة بشكل عام وكيف تشكّل اليوم مصدر إلهام للناس!

اقرئي أيضاً: بطولة Richard Mille العُلا بولو الصحراء تختتم فعاليّاتها... والفوز ملكيّ بإمتياز!

Jabal AlKhuraymat
نقطة التقاء بين مختلف الحضارات في العصور القديمة

للتعرّف أكثر على كيفيّة إدراج موقع الحِجر الأثري على قائمة التراث العالميّ، تشرح لنا هيلين ماكغوران، مديرة التفسير والتقييم الفنّيّ في الهيئة الملكيّة لمحافظة العلا، إجراءات الترشيح: "تمّ ترشيح العلا وفقاً لمعايير اليونسكو (ii) (تسليط الضوء على دور الموقع القديم المهمّ كنقطة التقاء بين الحضارات المختلفة في العصور القديمة، على طرق تجارة البخور بين شبه الجزيرة العربيّة ومنطقة البحر الأبيض المتوسط ​​وآسيا؛ وكموقع يشهد على التبادلات الثقافية المهمّة في مجال الهندسة والديكور واستخدام اللغة وتجارة القوافل – وعندما كانت مدينة الأنباط مهجورة، استمرّت طرق التجارة والحجّ عبر هذه المنطقة حتّى القرن العشرين). بالإضافة إلى معيار (iii) (أنّها تشكّل دليلاً فريداً على حضارة الأنباط ولا سيّما في القرن الأوّل الميلادي، إذ تصوّر هندسة الأنباط الخاصّة التي تظهر على المقابر، وإتقانهم لتقنيّات إدارة المياه كما يتّضح من الآبار والأنظمة الهيدروليكيّة في المنطقة". وتشاركنا ماكغوران في ما يلي المراحل المختلفة لتطوّر هذا الموقع وكيف أصبح جزءاً من التراث التاريخيّ السعوديّ.

Jabal AlKhuraymat

إمدادات وفيرة من المياه في الحِجر
تفسّر مديرة التفسير والتقييم الفنيّ في الهيئة الملكيّة لمحافظة العلا قائلة: "كان الأنباط في الأساس رعاة رحّل، وفي أواخر القرن الرابع قبل الميلاد كانوا يتاجرون في نبات المرّ واللّبان والتّوابل عبر قافلة جِمال، من جنوب الجزيرة العربية شمالاً باتّجاه شرق البحر الأبيض المتوسّط ​​ومصر وبلاد ما بين النهرين". ثمّ تضيف: "أصبح الأنباط أكثر استقراراً وثراءً بفضل هذه التجارة، وكانوا يشكّلون مملكة مستقلّة في تفاعل وثيق مع روما القديمة بشكل خاصّ. ويعود استيطان الحِجر إلى قرابة منتصف القرن الأول قبل الميلاد، أي بعد حوالى 250 عاماً من استيطان البتراء. وترتبط أهميّة الحِجر بموقعها بحيث تستفيد من طرق التجارة البريّة وقربها من البحر الأحمر والطرق البحريّة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الحِجر تتمتّع بإمداد وفير من المياه مع سطح المياه الجوفيّة على عمق عشرة أمتار تحت الأرض. وبفضل الـ132 بئراً الذي تمّ العثور عليها هناك، أصبح من الممكن الوصول إلى هذه المياه لأغراض الريّ الزراعيّ". ثمّ تكمل ماكغوران حديثها مسلّطة الضوء على وجود أكثر من 100 مقبرة تاريخيّة، وتقول: "هذه المقابر هي دليل على حرفيّة الأنباط الهندسيّة، بالإضافة إلى قدرتهم على اعتماد التأثيرات الهندسيّة من محيطهم لابتكار عمل فريد فعلاً ويسهل التعرّف عليه كونه يتميّز بأسلوبهم الخاصّ. وتشكّل المدافن أكبر مثال على أسلوب الأنباط الهندسيّ المميّز، كما تشمل البنى الأخرى في الحِجر الديوان، وهو غرفة كبيرة للولائم، بالإضافة إلى ميزات أخرى لجمع مياه الأمطار وتوزيعها. وفي وسط الموقع، ركّزت أعمال الحفر على الكشف عن بقايا مدينة تجارية معقدّة وصاخبة بالإضافة إلى المباني الدينية بما فيها معبد فوق أحد النتوءات الصخرية".

Jabal AlBanat 

موقع على طرق التجارة التي أصبحت لاحقاً طرقاً للحجّ
نواصل رحلتنا عبر الزمن في تاريخ هذا الموقع بينما تفيدنا مديرة التفسير والتقييم الفني في الهيئة الملكية لمحافظة العلا بالآتي: "بعد ضمّ شبه الجزيرة العربية من قبل الإمبراطور الروماني Trajan عام 106 م، استضافت الحِجر حامية رومانية، ويظهر ذلك في الثقافة الماديّة والنقوش والأدلّة مع وجود معسكر بحمّامات ساخنة. بقي المعسكر مستخدماً حتى القرن الرابع ميلادي. تراجع وضع موقع الحِجر أكثر فأكثر ثمّ هُجر قرابة أوائل القرن الخامس ميلادي. لكن بالرغم من ذلك، كان الموقع لا يزال موجوداً على طرق التجارة التي أصبحت في النهاية أيضاً طرقاً للحجّ. وفي أوائل القرن الثاني عشر، كان في الحِجر واحدة من 12 محطّة سكّة حديد في العلا على سكّة حديد الحجاز".
بدأت الاستكشافات العلميّة لمواقع الأنباط بما في الحِجر في أواخر القرن التاسع عشر، مع استكشافات العلماء مثل Charles Doughty وJulius Euting وCharles Huber ثمّ في أوائل القرن العشرين مع Antonin Jaussen وRaphaël Savignac. وتختتم ماكغوران هذه التفاصيل التاريخيّة بما يلي: "من خلال الروايات، أصبحت الرسومات والصور لمواقع هؤلاء الأفراد مثل الحِجر معروفة على نطاق واسع، وفي الغرب على الأقلّ. وقد بدأ علماء الآثار من دائرة الآثار والمتاحف عمليّات المسح من ستينات القرن الماضي، في حين بدأت الحفريّات العلميّة الحديثة في الحِجر عام 2002 في إطار بعثة سعوديّة فرنسيّة مشتركة، وهذا ما أثار الاهتمام بآثار الأنباط في المملكة العربية السعودية على الصعيد العالميّ ليتوّج لاحقاً بإدراج الحِجر على لائحة اليونسكو للتراث العالميّ عام 2008 ".

وبعد أن رأينا تطوّر هذا الموقع عبر التاريخ، رافقينا لنتعمّق أكثر في تقاليده وطقوسه وكيف أثّرت على الثقافة السعوديّة بشكل عام مع ليلى تشابمان مديرة التفسير في الهيئة الملكية لمحافظة العلا
بدأنا أوّلاً بسؤال تشابمان عن التقاليد المعروفة والخاصّة بهذه المنطقة. فتخبرنا قائلة: "العلا هي منبر حيّ لرؤية تراث سكان العلا ومشاركته والاحتفاء به. يتميّز هذا التراث الثقافيّ بجذور عميقة ومترابطة، وهو غالباً في حوار مع المناظر الطبيعية - فبعض الأطباق مثلاً مستوحاة من حصاد الواحة، بما فيها المورينغا - كما ينبت أيضاً مصدر غنيّ للشاي والفنون التقليديّة والعلاجات المنزليّة للأمراض التي تتراوح من آلام المعدة إلى لدغات العقارب. وتتمتّع المنطقة أيضاً بفولكلور خاصّ وتاريخ شفويّ وحِرف تظهر عبر الصحراء والواحات والمناظر الطبيعية الحضرية. ولا شكّ في أنّ بعض العادات قد اختفت اليوم - مثل المسحراتي الذي يقرع الطبل لإيقاظ أهل البلدة القديمة في ليالي شهر رمضان المبارك من أجل تناول وجبة السحور - لكن تمّ تعديل عادات أخرى فاستمرّت حتى اليوم، وما زال أهل العلا يعتزّون بها كما تشكّل نقطة تقاطع غنيّة للمستكشفين الثقافيّين والمسافرين اليوم.

جذور عميقة ومترابطة
وكيف ترتبط تلك التقاليد بالعادات والطقوس السعودية بشكل عامّ؟ تخبرنا مديرة التفسير في الهيئة الملكية لمحافظة العلا قائلة: "تُعَدّ العلا موقعاً له جذور عميقة ومترابطة ضمن المملكة. وكما في الكثير من المناطق داخل المملكة، تُعتبر أشجار نخيل التمر من النباتات القيّمة والثمينة - وهي في الواقع مدرجة على قائمة اليونسكو للتراث غير الماديّ (للسعودية ولـ13 دولة أخرى). وفي منطقة العلا وحدها هناك أكثر من مليونَي نخلة - وبالإضافة إلى الثمار التي تعطيها، لطالما شكّل نخيل التمر مصدر وحي للتصميم والإبداع ضمن مجتمعات العلا. وهذه إحدى التقاليد المستمرّة حتّى اليوم. عندما كان يُستخدم سَعَف النخيل للسقوف كانت توفّر الحماية من شمس الصحراء ورياحها، في حين كان يتمّ إنتاج المزيد من المنسوجات الفنّيّة للمجوهرات أو السلال المزخرفة. وشكّلت الأشجار أيضاً مصدراً مهمّاً لمواد البناء، بما فيها الحبال والسياج والأثاث. واليوم، تقوم مدرسة الديرة، وهي مركز الفنون والتصميم الأوّل في العلا، بدعم الحرفيّين لنقل الفنون التقليدية في العلا إلى عصر جديد من التصميم والإبداع، مع إعادة إحياء النخيل كأحد المواد الطبيعية الكثيرة التي تشكّل مصدراً للإبداع المعاصر.

Tomb of Lihyan son of Kuza 

مفترق طرق متجدّد للثقافة
وفي الختام، سألنا تشابمان عن مصدر الإلهام الرئيس الذي يخلقه هذا الموقع في أذهان الفنّانين والمصمّمين والناس بشكل عام الذين يستمدّون الوحي من هذا المكان. فتجيبنا مسلّطة الضوء على الآتي: "يُعتبر تراث العلا الطبيعيّ والإرث الفنيّ اليوم مصدر إلهام غنيّ لمجموعة من الفنّانين والقيّمين والممارسين الثقافيّين والروّاد المبدعين من دول مختلفة وفي مراحل مختلفة من حياتهم المهنيّة. تروي العلا القصة المعقّدة للاستيطان البشريّ والحضارة من خلال الفنّ والتصميم. وبالتالي فهي نقطة اتّصال أصيلة وغنيّة بالنسبة إلى الجيل الجديد من المبدعين. وهي تجمع ما بين الهندسة ما قبل التاريخ في الحقول البركانيّة التي ما زالت تحيّر علماء الآثار، ونحت القبائل العربية القديمة التي جعلت من العلا عاصمة لها، ومقابر الأنباط الضخمة المنحوتة من جبال الحجر الرملي والمزدانة برموز معقّدة مستوحاة من الثقافات الإيطالية والمصرية واليونانية، ومتاهة الطوب الطينيّ إلى مدينة العلا القديمة المزدانة بأعمال السكّان". وتختتم تشابمان بالقول: "تتّخذ هذه الآثار معانٍ وترتبط بقصص من خلال النقوش الكثيرة الموجودة عليها والفنّ المنحوت في الصخر والتراث غير المادي والفنون التقليديّة. ومن مهد الإبداع والعمل عبر المنصّات، تبرز العلا كمفترق طرق متجدّد للثقافة، فتجمع القديم في حوار مع الحديث، والعلا في حوار مع العالم".  

اقرئي أيضاً: Dolce & Gabbana تستعرض مجموعتها في العلا

العلامات: العلا AlUla

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث