Salwa Chalhoub: نحن محطّمون وبحاجة إلى الوقت للتعافي إلّا أنّنا سنعيد بناء بيروت

4 أغسطس 2020 تاريخ حُفر في ذاكرة اللبنانيّين والعالم أجمع... أكثر من 180 ضحيّة وآلاف الجرحى وعشرات المفقودين بالإضافة إلى ما يقارب 300 ألف شخص من دون مأوى. هذه ليست مجرّد أرقام إنّما مأساة حقيقيّة لا بل كارثة غير مسبوقة في تاريخ لبنان. وكأنّ بيروت صرخت وعبّرت عن وجعها المتراكم إلى أقصى حدود الأرض. ومهما حاولنا توصيف ما حصل بعيداً عن الصراعات السياسيّة في هذا البلد فالنتيجة واحدة: الخسارة في هذا اليوم أصابت الجميع، فمن لم يفقد شخصاً عزيزاً أو مأوى أو مصدر رزق فقَد قطعة من ذاته... لطالما تميّزت بيروت بطبيعتها وجمالها وطقسها وثقافتها وتاريخها وانفتاحها وحسن ضيافة أهلها... هي خصائص لا تُعدّ ولا تُحصى، أحبّها الشرق والغرب على حدّ سواء، وسطعت أسماء اللبنانيّين المبدعين حول العالم منذ مئات السنوات. أليست هي موطن جبران خليل جبران وفيروز والأخوين رحباني وشارل مالك وحسن كامل الصبّاح ومايكل دبغي وناديا تويني على سبيل المثال لا الحصر؟ مبدعون ومبدعات في مختلف المجالات تقدّموا رغم الصعاب ليزيدوا تاريخ بلد الأرز مجداً. واليوم بالإضافة إلى العائلات التي خسرت كلّ ما تملك، نقف أمام قطاعات عدّة كقطاعَي الأعمال والإبداع النابضَين في قلب بيروت واللذين ينزفان دماً وقطاع التصميم الذي كان يزيدها تألقاً وجمالاً ويبثّ الروح في اقتصادها...
حيث أنّ أحياء وسط المدينة ومناطق مار مخايل والجميزة والكرنتينا في بيروت تضمّ قسماً كبيراً من ورش عمل ومكاتب هذه القطاعات. فها هم المبدعون الذين حاولوا في السنوات الماضية إعادة إعمار بيروت اقتصاديّاً وفنيّاً وثقافيّاً بإتقان وابتكار يعودون إلى نقطة الصفر. فمنهم من دمّرت مشاغلهم ومكاتب عملهم ومنهم من هُدّمت منازلهم إلاّ أنّ وجعهم واحد وصرختهم مدويّة. فيمكن للجراح الماديّة أن تُشفى إنّما الجراح الخفيّة تحتاج مدّة طويلة لتلتئم، خصوصاً أنّها ليست المرّة الأولى التي تقع بيروت ومعها تعبهم وجنى عمرهم تحت الرماد... فبدا الأمر وكأنّه قدرها، فيما اشتهر أبناؤها عبر التاريخ بصمودهم العظيم... إلاّ أنّ هذه المرّة مختلفة تماماً، إذ تخطّت كلّ الأبعاد وبات الصمود طلباً صعباً... في ما يلي نعود بالذاكرة إلى هذا اليوم المشؤوم مع نخبة من روّاد قطاع الأعمال والإبداع والتصميم في بيروت في جولة على مختلف أحيائها المتضرّرة، لنعيش معهم هذه اللحظات التي لم تغيّر معالم العاصمة اللبنانيّة فحسب إنّما معالم حياتهم أيضاً!

وعلى بعد دقائق قليلة من جريدة النهار، ها هو معرض Opera Gallery الواقع قبالة الواجهة البحريّة يلملم حطامه أيضاً. وفي المبنى عينه منزل مؤسّسته المشاركة سلوى شلهوب التي وجدت نفسها في هذا التاريخ أمام فاجعة دمرّت منزلها ومكان عملها على حدّ سواء. نستذكر في ما يلي اللحظات العصيبة التي عاشتها مع عائلتها وكيفيّة تخطّيها لها.   

بينما كانت تلعب ابنة سلوى شلهوب البالغة من العمر تسع سنوات مع صديقتيها، تغيّر كلّ شيء في غضون لحظات. وتخبرنا: "اتّصلت بي صديقتي لتخبرني أنّ ثمّة حريقاً في المرفأ الذي يواجه منزلي، فخرجت لتفقّد الأمر. وفي هذه الأثناء كانت ابنتي ترغب بالسباحة في المسبح الخارجي المطلّ على المرفأ مع صديقتيها. وبينما كنت أطلب منهنّ عدم الخروج بسبب الحريق، حصلت الواقعة..." وها إنّ الزجاج الذي يشكّل عماداً من أعمدة المنزل والكوّة الموجودة في سقفه يتساقطان حطاماً على رؤوسهنّ من كلّ حدب وصوب. فما كان من شلهوب إلّا أن حملت ابنتها وطلبت من المربيّتين أن تحملا صديقتي ابنتها وتخرجن من المبنى. وتضيف: "وجدت نفسي أنزل 9 طوابق حافية القدمين على الحطام والزجاج". واعتقدت لهول الصدمة والدمار أنّ أحداً لن ينجو... وتفقّدت أختها وعائلتها الذين يعيشون في المبنى عينه معتقدةً أنّها خسرتهم ولكنّهم نجوا أيضاً. فخرجوا سويّة ليروا مشهداً مرعباً من الدماء والجرحى بينما لا أحد يفهم ما الذي يحصل. "كان اعتقادي الأوّل أنّ صاروخاً أطلق على القاعدة العسكريّة المواجهة لمنزلي أو على منزلي"، تشير شلهوب. وكانت أوّل فكرة خطرت لها هي طمأنة والدة صديقتي ابنتها أنّهنّ نجونَ. وتخبرنا أنّ زوجها لم يكن في المنزل أثناء التفجير، فاعتقد أنّه سيعود ليجد زوجته وطفلته في عداد الضحايا. وبعد وصوله لم يصدّق أنّهما على قيد الحياة. فتشكرالله أنّهما نجيا بالرغم من الجروح الكثيرة التي تعرّضا لها سواء الجسديّة أو النفسيّة. وتضيف: "إنّه أمرلا يُقارن مع ما رأيناه بعد ذلك".

عندما ترى جنى العمر يذهب سدى
وتؤكّد شلهوب أنّ كلّ ما تملكه مع زوجها في بيروت دمّر بالكامل بما في ذلك شركة زوجها فكلّ ما استثمره فيها وعمل ليلاً نهاراً لتحقيقه ذهب سدى. " كنت دائماً أطلب من زوجي عدم حدّ استثماراته في بقعة جغرافيّة واحدة، هو الذي عاش في فرنسا ويدير عمله الرئيس هناك. لكنّه كان يقول لي أريد أن تكبرابنتي هنا وأن أشيخ وأموت في بلدي. واليوم قلبه مفطور كآلاف اللبنانيّين الآخرين"، تخبرنا شلهوب. وفيما تحطّمت الكثير من الأعمال الفنّيّة في المعرض من بينها لوحة كانت قد بيعت قبل ساعة واحدة من الإنفجار ولم يتمكّنوا من إيصالها للشاري، تنوّه شلهوب بمبادرات الدعم التي يقوم بها بعض الفنّانين والمؤسّسات الفنيّة. فقد طلب منها الفنّانون الذين لم تتأذى لوحاتهم بأن يعود ريعها لمؤسّسات خيريّة لبنانيّة. كما سيقوم المجتمع الفنّي الدولي بمبادرات عدّة كتنظيم Opera Gallery في لندن معرضاً خلال شهر أيلول الجاري لتعود أرباحه لجمعيّة خيريّة لبنانيّة. 

ليس هذا المستقبل الذي أحلم به لابنتي
"لم تكُن ابنتي تصدّق أنّنا ما زلنا على قيد الحياة وكانت تطلب منّي مغادرة لبنان، فقد بات كلّ شيء لديها متعلّقاً بالإنفجار"، تخبرنا شلهوب. إلّا أنّها تتحاور معها لتدعمها وتخفّف عنها وتطمئنها أنّ ذلك لن يحدث من جديد، علماً أنّها غير متأكّدة من ذلك، فهي أيضاً تشعر بالخوف وعدم الأمان. وعندما سألناها عن الصمود الذي يُعرف به الشعب اللبناني الذي لطالما عانى الأمرّين، تخبرنا أنّ هذه الكلمة باتت متناقضة بالنسبة إليها اليوم. فبالرغم من أنّ هذا الصمود جزء من هويّة اللبنانيين إلّا أنّها لم تعد متأكّدة أنّهم يجب أن يكونوا صامدين بهذا الشكل، إذ تعتقد أنّ هذا الصمود تحديداً أوصل البلاد إلى هذه الحالة لأنّ الشعب اللبناني دائماً ما رضيَ بالأوضاع الصعبة التي يعيشها. وتقول: "لكنّني اليوم لا أريد أن تكبرابنتي في أجواء مماثلة محاطة بالقلق والخوف، ليس هذا المستقبل الذي أحلم به لها. لذا هناك أمر واحد مؤكّد، سنحارب لاسترداد بلدنا ولكن بشكل أفضل من السابق لأنّنا لن نقبل مجدّداً ومن غير المسموح أن نعيش في لبنان ما قبل 4 أغسطس". وفيما تفكّر مع زوجها بالسفر إلى الخارج لتتابع ابنتها دراستها ريثما تنتهي أعمال الترميم في ممتلكاتهم في بيروت، تؤكّد أنّ الحبّ الذي يكنّانه في صميم قلبهما لهذا البلد لن يتغيّر.

وتريد أن تتوجّه عبر ماري كلير العربيّة إلى المجتمع الدولي وإلى الصحافة العالميّة بنداء استغاثة: "على كلّ شخص يكنّ حبّاً للبنان في قلبه ألّا يلتزم الصمت ويطلب العدالة الحقيقيّة والعادلة لبلدي لنعرف بالضبط ما حصل في هذا اليوم." وتختم: "نحن محطّمون وبحاجة إلى الوقت للتعافي من هذه الكارثة عاطفيّاً ونفسيّاً وجسديّاً. ونشكر الله مجدّداً على نعمة النجاة، لأنّ كارثة بهذا الحجم كان بإمكانها أن تودي بحياة آلاف الأشخاص. إلاّ أنّنا سننهض من جديد وسنرمّم ما خسرناه ونعيد بناء بيروت ولن نفقد الأمل."

اقرئي أيضاً: Nayla Tueini: في أوج الألم لا مكان للإستسلام، فرسالة النهار أكملت منذ لحظة الإنفجار

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث