مشهد الطاقة الجديد

الإعداد: Dr. Carole Nakhle

كم من المرّات قابلت امرأة شابّة قالت بكلّ فخر وصراحة: "حلمي العمل في صناعة النفط". أو كم من المرّات قابلت والدين قالا: "حلمنا أن تنال ابنتنا وظيفة في قطاع النفط". أراهن على أنّك لم تسمعي هذا كثيراً، لا سيّما عند مقارنة هذه الصناعة بالقطاعات الأخرى. ولكن لا يقتصر هذا الواقع على الشرق الأوسط فحسب. كما أنّه ليس بالأمر الجديد، إذ على الرغم من مرور أكثر من قرن من الزمان، غير أنّ جاذبية الصناعة للمواهب النسائيّة لم تتغير بشكل جذري على مر السنين.
ولكن لا يسعنا إلّا أن نتساءل لماذا هذا لسان الحال؟ ومن المفارقات أنّه ليس من إجابة واحدة مقنعة على هذا السؤال. إنّما يمكننا أن نلقي اللوم الأكبر على التصوّر أو حتى سوء فهم الصناعة، على الأقل في حالتها الحديثة. حيث لا يعتبر إخراج السائل الأسود المصفر اللزج من الأرض مشهداً جميلاً جداً. كما أنّ الرجال الصارمين الذين تغطّيهم الأوساخ والوحل أثناء نقلهم المعدات الثقيلة التي تبدو وكأنّها هياكل خطيرة، لا يعكسون جوّ العمل المريح تماماً. ولا شكّ في أنّ العمل النفطي يتطلّب الكثير من المخاطرة. ففي نهاية المطاف، إنّنا نستخرج من الأرض منتجاً شديد الاشتعال تمّ تشكيله منذ ملايين السنين وعلق في تكوين صخري معيّن، ما يُعرف تقنيّاً باسم الخزّان، تحت ضغط قد يكون خطيراً ما لم يتمّ التعامل معه بشكل صحيح. إلّا أنّ الصناعة قطعت شوطاً طويلاً لا سيّما من حيث التطوّر وسلامة العمليّات. ومثّلت التكنولوجيا عاملاً رئيساً في ذاك التقدّم، ولا تزال تلعب دوراً أساسيّاً بشكل متزايد حتى اليوم. لنأخذ على سبيل المثال الجيل الجديد من التقنيات، خصوصاً تلك المتعلّقة بالرقمنة، بما في ذلك نشر الروبوتات والطائرات بدون طيار لإجراء عمليّات تفتيش في الموقع مثلاً. بفضل ذلك، بات يمكنك الاسترخاء على أريكة مريحة ومراقبة العمليّات في موقع النفط من غرفة المعيشة الخاصّة بك.
وبغضّ النظرعن شعور أي منّا تجاه الصناعة، لا يسعنا إلّا أن نُعجب بالتعقيد المطلق لعمليّاتها. تخيّلي فقط كيف يمكن لشركات النفط تحديد أفضل مكان للحفر تحت آلاف الأمتار من الماء، ثمّ على عمق أكبر في قاع البحر عبر الصخور للوصول إلى خزّان ثمّ إدارة هذا الخزان لسنوات وعقود قادمة، تحت أيّ ظروف جويّة، كل ذلك من مسافة بعيدة مع الاعتماد على شاشات كمبيوتر متطوّرة تحاكي سفن الفضاء! وتتطلّب العمليات المماثلة أيضاً تنسيقاً دقيقاً عبر عدد كبير من الأشخاص القادمين من تخصّصات مختلفة، من المجال التقني إلى المالي إلى الإداري والأمني. لذلك، بالنسبة إلى أولئك الذين يحبّون عيش المغامرات، لا بدّ لهم من إضافة صناعة النفط إلى قائمتهم.
ومع ذلك، يمكننا تفهّم تماماً أنّ الكثير من الأجيال الشّابة اليوم، رجالاً ونساءً، يخشون ألّا يكون لديهم مستقبل في قطاع يُنظر إليه اليوم على أنّه "صناعة محتضرة". أوليس العالم يحاول جاهداً الابتعاد عن الوقود الأحفوري، أي النفط والغاز والفحم، التي تُعتبر الجناة الأساسيّة وراء انبعاثات الكربون لمحاربة تغيّر المناخ؟ بالطبع، لا يكاد أيّ شخص يرغب في إنفاق الكثير من الوقت والجهد والمال في السعي للحصول على شهادة مدّة صلاحيتها قصيرة. لذا فإنّ هذه المخاوف مشروعة، ولكن دعونا نفكّر في بعض الجوانب.
أوّلاً، تتّفق جميع وكالات التنبؤ المحترمة على أنّ النفط والغاز لن يختفيا فجأة من مزيج الطاقة لدينا، في أيّ وقت قريب، أو على الأقل ليس قبل العقود الثلاثة المقبلة - ومَن يدري ما يمكن أن يحدث بين الحين والآخر. ففي الأيّام الأولى لصناعة النفط، استُخدم النفط للإضاءة. وعندما تمّ تطوير الكهرباء، اعتقد الكثيرون أنّ عصر النفط قد انتهى، فقط ليتم تجديده وتمديده لفترة أطول مع تطوير محرّك الاحتراق الداخلي، أو السيارة التقليديّة بلغة غير تقنيّة. لذا فإذا أردنا أن نعتبر التاريخ شاهداً على أيّ حقيقة، فلا ينبغي لأحد أن يقلّل من قدرة صناعة النفط على إعادة اختراع نفسها، خصوصاً عندما تواجه تهديدات وجوديّة.
ثانياً، لا يستخدم النفط في قطاع النقل فحسب، بل يدخل في صناعة المكياج وصولاً إلى العطور والأدوية والبلاستيك والأثاث والإلكترونيّات... وكلّ ما قد يخطر ببالك. إذ تأتي آلاف المنتجات من النفط، حتى أنّ مجتمعاتنا الحديثة تتمحورحول النفط. لذا فإنّ مجرّد التحوّل من سيارة تقليديّة إلى سيارة كهربائيّة لن ينهي عصر النفط، ناهيك عن واقع أنّ السيارات الكهربائيةّ أمامها طريق طويل لتهدّد بشكل خطير الأسطول الضخم من السيارات التقليديّة، إذا ما أضفنا إلى ذلك الطائرات ووسائل النقل الأخرى التي ستحتاج إلى كهرباء. إذاً لا عجب في أن تتّفق معظم الوكالات الدولية على أنّ النفط والغاز سيستمرّان في توفير ما لا يقل عن نصف احتياجات العالم من الطاقة حتّى منتصف القرن الحالي، وبعد ذلك بكثير بحسب اعتقاد الكثيرين.
ثالثاً، لا شكّ في أنّ تغيّر المناخ يمثّل مصدر قلق خطير لا ينبغي الإغفال عنه. ولكن في الكفاح العالمي لوقف ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، لا يزال بإمكان صناعة النفط أن تلعب دوراً لا يمكن غضّ الطرف عنه، لا سيّما عندما تستخدم كلّ ما هو ممكن من التقدّم التكنولوجي للالتزام بأعلى المعايير البيئيّة وتقديمها إمدادات موثوقة ووفيرة ورخيصة للاقتصاد العالمي وللصناعة وللمستهلكين.
وأخيراً، لا يكتمل أي تعليق على آفاق صناعة النفط بدون التفكير في تأثير أزمة كورونا، التي تسبّبت في انهيار الطلب على النفط، عندما توقف الاقتصاد العالمي مع توقف الطائرات عن الطيران وتوقفت السيارات عن السير. إثر ذلك، انهارت أسعار النفط بالتوازي. وتمثلت استجابة الصناعة في خفض التكاليف بما في ذلك تقليل القوى العاملة، وهي استجابة نموذجيّة في مثل هذه الصناعة الدوريّة. ومن شأن هذا بحدّ ذاته أن يكون بمثابة رادع رئيس للمواهب الشابة التي تبحث عن الأمان الوظيفي. إنّما علينا أوّلاً أن نتذكّر أنّ كورونا هي "أزمة لا مثيل لها"، على حدّ تعبير صندوق النقد الدولي، وقد طال الاقتصاد العالمي بشدّة. إذاً نعم، كان قطاع النفط وكذلك قطاع الخدمات من بين الضحايا الأكثر وضوحاً، ولكن لم يكن أيّ قطاع آخر محميّاً بالكامل من الأزمة. ومع ذلك، لا يزال يتعيّن على صناعة النفط القيام ببعض الأعمال لتقليل تأثير دورات أسعار النفط على التوظيف. وكما هو الحال مع كلّ أزمة، ثمّة جانب إيجابيّ وشركات تتحلّى بالحكمة، الخاصّة منها والمملوكة للدولة على حدّ سواء، و تعمل على إعادة تموضع نفسها لتخرج من الأزمة أكثر قوّة ومرونة. لذا فإنّ بناء القوى العاملة في المستقبل هو محور الاستراتيجيّات المنقّحة للكثير من هذه الشركات، مع التركيز بشكل خاصّ على جذب المواهب الشابّة والحفاظ عليها، وخصوصاً الإناث. وبعيداً عن اعتبار النفط والغاز قطاع الأمس، إنّ الطريق تنفتح أمام الصناعة لتكون البوابة الحقيقيّة لمشهد طاقة جديد حيث تتعايش الطاقة القديمة والجديدة وحيث تلعب المرأة دوراً رئيساً.

اقرئي أيضاً: Miram El Maoula: الوجهات السياحيّة السعوديّة تذهل الكثيرين وتستحق التكريم

العلامات: Dr. Carole Nakhle

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث