الدكتورة ملك النوري: ارتباطنا بالأرض وفهمنا للعالم يعبّران عن نضجنا كبشر

يُعتبر التصحّر وتلوّث الهواء والنقص في الموارد المائيّة وتلوثّها من أكثر القضايا البيئيّة خطورةً في المملكة العربيّة السعوديّة اليوم. وبما أنّ النقص في المياه أحد أهمّ التحدّيات التي تواجه المملكة، كانت الدكتورة ملك النوري قد ابتكرت نماذج قرار وأدوات لإدارة الموارد المائيّة والتخطيط لها على أساس التقييم التحليليّ ونماذج التحسين الرياضيّة. وتمّ اقتراح بحثها التطبيقيّ حول تحليل قرارات سلسلة توريد تحلية المياه في المملكة العربيّة السعوديّة وتحسينها لمساعدة مخطّطي الموارد المائيّة وصنّاع القرار في المملكة على القيام بتنمية مستدامة واقتصاديّة لتوسيع طاقة التحلية. وبينما تنشر أبحاثها في المجلّات العلميّة وفي وقائع المؤتمرات الدوليّة لتعبّر عن شغف هذه المرأة السعوديّة الرائدة في المجال البيئيّ التكنولوجيّ في المملكة بالعلوم، ها إنّها اليوم تمثّل قدوة لجميع الفتيات السعوديّات الراغبات في دمج الاستدامة في أيّ مجال شغوفات به. كذلك، نظراً إلى أنّها عميدة جامعة عفت في جدّة ورئيسة المجلس العلميّ فيها ونائب رئيس مجلس الجامعة لا سيّما باحثة زائرة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فهي على اتّصال مباشر بالأجيال الشابّة. لذلك، عيّنتها وزارة الطاقة سفيرةً لمبادرة تعليم المرأة وتمكينها في الطاقة النظيفة، فتعمل على تحفيز الشابّات على أن يشكّلنَ جزءاً من قطاع الطاقة النظيفة. وفي ما يلي، نناقش معها تصوّرها حول جميع القضايا البيئيّة الملحّة والاستدامة، فضلاً عن وجود النساء في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيّات!

التعامل مع القضايا البيئيّة الملحّة في المملكة
من المعلوم أنّ مناخ منطقة الخليج قاسٍ وحارّ وجاف ومستويات ندرة المياه مرتفعة جدّاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذا فضلاً عن ارتفاع الضغط على المياه بسبب استخدام الزراعة كنشاط أساسيّ للاقتصاد، إلى جانب معدّلات النمو السكانيّ العالية ونشاطات التصنيع والتوسّع الحضريّ. لذلك، سألنا الدكتورة النوري أوّلاً عن تطوّر التعامل مع القضايا البيئيّة الملحّة في المملكة العربيّة السعوديّة، لا سيّما في ما يتعلّق بمشكلة شحّ المياه. وأوضحت لنا أنّ مشاكل استدامة المياه في المملكة تنقسم إلى شقّين مهمّين. أوّلهما ندرة المياه التي تعدّ مشكلة عالميّة إنّما تُعتبر شديدة جدّاً في منطقتنا. وتقول في هذا الصدد: "بلدنا واحد من 17 دولة تمّ تصنيفها على أنّها معرّضة لخطر شديد بموجب مؤشّر الضغط المائيّ الذي ينظر إليه في مصادر المياه المتاحة وفي عدد السكّان". ثمّ، توضح بالقول إنّ المملكة العربيّة السعوديّة استخدمت في الماضي طبقات المياه الجوفيّة والمياه السطحيّة كمصدر للمياه، ثمّ اكتشفت أنّها ليست بطريقة مستدامة للحصول على المياه، خصوصاً أنّ هذه الممارسة أدّت إلى استنزاف بعض موارد المياه الطبيعيّة المحدودة بالفعل. أمّا الشقّ الثاني، فيقضي بتزايد استهلاك المياه بسبب الارتفاع الهائل في عدد السكّان في البلاد، بحيث بات استهلاك الماء يبلغ حوالى 26 مليون متر مكعّب في السنة اليوم. من هنا، قامت الدولة بتكييف حلّ تكنولوجيّ يقضي بتحلية مياه البحر. غير أنّ هذا الحلّ كان مكلفاً اقتصاديّاً وبيئيّاً لأنّ العمليّة تتطلّب الكثير من الطاقة وتنتج انبعاثات عالية من ثاني أكسيد الكربون. وبذلك خلُصت إلى أنّه لا يمكن التفكير في مشكلة المياه على حدة لأنّها مرتبطة بموارد أخرى. ومع ذلك، فهي تشير إلى البرامج الضخمة التي تمّ تطويرها في البلاد للحفاظ على المياه وتزويد المملكة بها، منها على سبيل المثال معدّات مجانيّة للحفاظ على المياه في صنابير المياه، ممّا يعني تطوّر المناقشات حول القضايا البيئيّة إلى إجراءات تتماشى مع المعالجة العالميّة لها.
من الواضح إذاً أنّ المملكة تعيش تقدّماً هائلاً من حيث معالجة القضايا البيئيّة. لكن هل تسير البلاد أيضاً في الاتّجاه الصحيح نحو الاستدامة سواء كان بيئيّاً أو اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً؟ تؤكّد الدكتورة ملك أنّ رؤية 2030 التي تقود المملكة كلّها لها ثلاث ركائز تشمل المجتمع النابض بالحياة والاقتصاد والمواطنين الطموحين. وتُعَدّ القضايا البيئيّة غاية في الأهميّة للبلاد، في حين يعتمد اقتصادها على الطاقة والنفط، فضلاً عن أنّها واحدة من دول مجموعة العشرين المسؤولة عن 80 ٪ من انبعاثات العالم. خصوصاً بعدما اعترفت الدولة مؤخّراً بالمشاكل البيئيّة فيها وأصبحت جزءاً من الاتفاقيّات الدوليّة بشأن الحدّ من انبعاثات الكربون. وتظهر أحدث التقارير أنّ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون انخفضت بنسبة 5٪ تقريباً في البلاد مقارنةً مع السنوات السابقة، كجزء من التزام الدولة بالتحرّك نحو ممارسات أكثر استدامةً والتصدّي لتغيّر المناخ والاحترار العالميّ. وركّزت المنطقة فعليّاً على التحوّل إلى الاستدامة من خلال تنويع اقتصادها، ممّا يعني كفاءةً في الطاقة وإصلاحات في أسعارها، فضلاً عن إضافة الطاقة المتجدّدة والطاقة الأنظف التي تعزّز استدامة النموّ الاقتصاديّ الذي لا يمكن تحقيقه وفقاً للرؤية ما لم نعالج هذه المشاكل البيئيّة. علاوةً على ذلك، ستساعد هذه الخطوات التي اتّخذتها المملكة العربيّة السعوديّة لمعالجة مشاكلها داخليّاً على معالجة القضايا البيئيّة العالميّة أيضاً.
ونظراً إلى أنّ الدكتورة النوري لطالما كانت شغوفة بالمياه النظيفة والطاقة المتكاملة، ليس بالغريب أنّها تودّ رؤية الكثير من المشاريع المستقبليّة المستدامة تُنفّذ في المملكة، منها مشروع تحلية المياه بالطاقة الشمسيّة. وتشرح قائلةً: "تساعد هذه العمليّة على إنتاج المياه العذبة باستخدام الطاقة الشمسيّة النظيفة وهي أيضاً طريقة ذات تكلفة معقولة." ثمّ، تؤكّد على أنّ السعوديّة بحاجة إلى التفكير في حلول مبتكرة لمشاكلها وعدم استيراد حلول دول أخرى، لا سيّما وأنّها تحتاج إلى خطط ماديّة لألواحها الشمسيّة وتصاميمها المبتكرة لعمليّات إنتاج المياه العذبة.

قوّة التغيير بيد الأجيال الشابّة
بما أنّها جزء من النظام الأكاديميّ السعوديّ، تبقى الدكتورة النوري على اتّصال مباشر مع الأجيال الشابّة. لذلك، سألناها عن كيفيّة جعلها تهتمّ بالبيئة أكثر وتفكّر بالاستدامة. فردّت بالقول: "تملك الأجيال الشابة القدرة على تغيير واقعنا اليوم، ويمكنها قيادة الأمّة إلى مستقبل أكثر استدامة". هذا وتعتقد الدكتورة النوري أنّ البيئة والتعليم المستدام هما مفتاح الحفاظ على البيئة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، حتّى أنّها تسهم بنفسها في تنفيذ هذه العمليّة: "من المنصّات التي ساهمتُ فيها، أذكر المنتدى العربيّ للبيئة ومؤتمر التنمية. بحيث نشرنا في نوفمبر الماضي منهجاً يمكن اعتماده لإعطاء المستوى المطلوب من التعليم البيئيّ لطلاب المدارس والجامعات بغضّ النظر عن تخصّصاتهم ووزّعناه على شتّى المقاطعات العربيّة، حتّى يصبح الجيل الشاب منخرطاً في القضايا البيئيّة. ومن المهمّ أن يكون الجميع واعياً ومشاركاً بنشاط في هذه المشكلة الإنسانيّة، وليس الممارسون أو صانعو السياسات فحسب".

المرأة في مجال التكنولوجيا
شغلت الدكتورة النوري، بالإضافة إلى بحثها في هذا المجال، منصب إدارة قسم نظم المعلومات في كليّة الهندسة في جامعة عفت وتولّت الرئاسة العامّة لمؤتمر التعلّم والتكنولوجيا. وبصفتها امرأة رائدة في المجال التكنولوجيّ البيئيّ، فهي بالتأكيد تمثّل قدوة للنساء الأخريات ليدخلنَ المجالات التي لا تُعتبر "أنثويّة". وبينما أكّدت أنّها لم تواجه أيّ مقاومة أبداً بصفتها امرأة في هذا المجال، تشرح أنّ الجوّ العامّ مشجّع جداً. وفي هذا السياق، تقول: "بصفتنا نساء، يتمّ الاحتفاء فعليّاً بوجودنا في هذا المجال المفتوح والمقبول، وليس من الصعب دخوله طالما أنّه شغفنا وأنّنا على استعداد لذلك". كذلك، إنّها متأكدة من أنّ الكثير من النساء سيدخلن هذا القطاع ويحقّقنَ إنجازات عظيمة فيه. وتضيف أنّ المرأة العربيّة تنضمّ إلى التخصّصات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيّات بمعدّل أعلى من المعدل العالميّ الذي يُظهرأنّها تحبّ العلوم والكمبيوتر والفيزياء والتكنولوجيا. لكن، هذه الحقيقة لا تنعكس في القوّة العاملة بحيث أنّ مشاركة المرأة متدنّية في المجالات العلميّة بشكل عامّ. وترى أنّه من الضروريّ وجود استراتيجيّة للتعامل مع هذا الموضوع وتمكين النساء في قوّة العمل، بالإضافة إلى الخطوات التي اتّخذتها الدولة بالفعل، أمثال قوانين المرأة في ما يتعلّق بإجازة الوالدَين التي تسمح لها بالعمل في الشركات. وتذكُر أيضاً أنّه تمّ إزالة الكثير من القيود المفروضة على النساء، وهذه خطوة جيّدة غير أنّها ترتبط ارتباطاً وثيقاً برؤية 2030.
وقالت: "في المملكة العربيّة السعوديّة، تمثّل قوّة العمل النسائيّة التي تصل إلى 30٪ في الاقتصاد جزءاً رئيساً من رؤية 2030، ولن تنجح الرؤية ما لم تنخرط النساء في القوة العاملة أكثر وتعمل بجديّة أكبر". وبحسب رأيها، فكلّ شخص يمثّل جزءاً ممّا يحدث اليوم ويسهم في تحقيق هذه الرؤية على المستوى الشخصيّ. أمّا عملها شخصيّاً، فيركّز على جلب النساء إلى مجال الطاقة ليكنّ فاعلات في هذا القطاع، وذلك بعدما عيّنتها وزارة الطاقة للعمل على الإتيان بنساء ناجحات في هذا المجال ليسردنَ قصص نجاحهنّ على الأجيال الشابّة وتحفيزهنّ على أن يصبحنَ جزءاً من مجال الطاقة النظيفة والعمل مع الطلّاب والمهندسين على بعض المشاريع المحليّة والمؤتمرات والندوات والاجتماعات وتقديم القدوة لهنّ.

المرأة والتنمية المستدامة
صحيح أنّ التنمية المستدامة من اهتمامات الإنسان وتتطلّب عمل الرجل والمرأة معاً، إلّا أنّ المرأة تلعب دوراً أساسيّاً في جعل التنمية المستدامة حقيقةً واقعة. وتوضح الدكتورة النوري أنّ المرأة لم تكن تشارك بنشاط في البرامج الخاصّة بهذا المجال بشكل عام، لذا ثمّة تأخير في تحقيق التنمية المستدامة للبلد بأكمله. وتؤكّد قائلةً: "إذا لم يعمل الرجل والمرأة معاً في سبيل التنمية المستدامة، فستحدث تأخيرات قطعاً". ثمّ تضيف: "ثمّة طرق مختلفة لتكون المرأة جزءاً من هذا التطوّر المستدام. إذ يمكنها الانضمام إلى برامج التنمية المستدامة أو الطاقة النظيفة أو حقول المياه النظيفة بصفتها مهندسة أو مصمّمة عمليّات... كذلك، هي بحاجة إلى تطبيق الممارسات المستدامة في منزلها مع أسرتها من خلال الحفاظ على الطاقة والمياه وتعليم أطفالها ودمج رؤى ووجهات نظر الاستدامة في أيّ مجال تعمل فيه".

"ازرعي مستقبلك"
أخيراً، تقول الدكتورة النوري: "ما نخطّط له اليوم هو ما سنحصل عليه غداً!"، وتضيف: "إنّنا نحافظ على بيئتنا اليوم وننقذ كوكبنا غداً ونمنح جيل المستقبل عالماً نظيفاً وصحيّاً. فكلّ شخص على هذا الكوكب له دور كفرد. مثلاً، أنا شخصيّاً أتعامل مع الأمر من خلال الدعوة إلى طاقة أكثر نظافةً والعمل بشكل خاصّ لتعزيز مشاركة المرأة في قطاعات الطاقة النظيفة، فضلاً عن توفير البحوث لهذا المجال بهدف ردّ الجميل لكوكبنا والتواصل معه. إذ لن نرى يوم الغد ما لم ننقذ المستقبل بزراعة شجرة تلو الأخرى اليوم". أمّا ما يحدث منذ انتشار فيروس كورونا فهو تجربة تعليميّة للجميع وفقاً للدكتورة التي تقول: "نحن كبشر نخشى أمراً واحداً الآن ونعمل ضدّه ويتضّح لنا اليوم كيف نتأثّرجميعاً ببعضنا البعض من خلال ممارساتنا على هذا الكوكب. لذا، آمل أن نتعلّم عدم انتظار حدوث أيّ طارئ لنحاول معالجته". وعند سؤالها عن الرسالة البيئيّة التي تودّ مشاركتها مع المرأة السعوديّة، أجابت بالآتي: "استمتعي بكوكبنا الجميل وقدّري محيطك سواء كنت في أراضي خضراء أو في الصحراء، فمن الجميل أن نتواصل مع المكان حيث نتواجد. كذلك، خذي بعض الوقت لردّ الجميل لكوكب الأرض، إذ ننال جميعاً نتائج طويلة الأجل إذا ما حافظنا على موارد كوكبنا للمستقبل، وستعود هذه الفائدة على حياتنا أيضاً، لأنّ ارتباطنا بالأرض وفهمنا للعالم يعني أن ننضج كبشر!"

اقرئي أيضاً: Kamelia BIN Zaal: كلّ ما نزرعه نحصده لاحقاً.

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث