ثلاث رؤى للمستقبل يجمعها الأمل... اكتشفيها معنا

الإدارة الفنية: Farah Kreidieh‎

التصوير: Maximilian Gower

صحيحٌ أنّ الفنّ ليس علاجاً للوباء الذي سيطر مؤخّراً على عالمنا، إنّما هو بالتأكيد علاج للنفوس ومحفّز للخيال من خلال مساعدته الإنسان على إطلاق العنان لمشاعره وأفكاره وإعطائه مساحة جديدة لفهم واقعه والتعبير عنه. كذلك فإنّ الفنّ ثابت في التاريخ وبالتالي يمكن للأعمال الفنّيّة في حقبة معيّنة أن توثّق الواقع. انطلاقاً من كلّ ذلك، عمدنا في هذا العدد إلى التعاون مع ثلاث فنّانات رائدات لإنتاج عمل فنّي يُمثّل رؤيتهنّ للمرحلة القادمة بعد انتهاء أزمة كورونا. فبات لدينا ثلاث رؤى وثلاثة أحاسيس وثلاثة أعمال تعبّر عن موضوع مشترك وهوالتأمّل بمستقبل أفضل من خلال الفنّ!

نادين قانصو: "في المرحلة القادمة علينا موازنة أفكارنا واستراتيجيّاتنا واستثماراتنا والتعاون مع بعضنا البعض للحفاظ على هذه السلسلة التي تجمع عملنا بعمل الآخرين"

هي ليست مصمّمة مجوهرات ومؤسّسة علامة “بلعربي” فحسب، إنّما فنّانة متعدّدة الوسائط اشتهرت أيضاً بصورها الفوتوجرافيّة وبأعمالها وتصاميمها التصويريّة البصريّة. إنّها نادين قانصو اللبنانيّة المقيمة منذ سنوات في دبي. فبينما دفعها شغفها بالهويّة العربيّة إلى ترجمة إحساسها في تصميم مجوهرات تحتفي بالخطّ العربي، تعبّر في فنّها ككلّ بإيجابيّة عن التنوّع في العالم العربيّ وعن ماهيّة الهويّة العربيّة كما تحمل أعمالها رسائل سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة. وشاركت قانصو رؤيتها للمستقبل في العمل الفنّي الذي أبدعته في في إطار التعاون الحاصل في عددنا هذا، وهي تخبرنا في ما يلي عن معايشتها لهذه الأزمة ورؤيتها المستقبليّة وتزوّدنا بتفاصيل عن هذا العمل الفنّي ومحاكاته للواقع والمستقبل.   

منذ بدء أزمة تفشّي فيروس كورونا، يبدو كأنّ العالم متجمّد، من إغلاق القطاعات الصناعيّة والإقتصاديّة والتجاريّة المختلفة تدريجيّاً إلى إعلان حظرالتجوّل والتنقّل عبر البلدان. فكيف تعايشت مصمّمة المجوهرات مع هذا الواقع الجديد؟ بالرغم من تقبّل قانصو لهذا الواقع منذ نشأته كونها امرأة واقعيّة، إلاّ أنّ تقبّلها هذا انقسم على مرحلتين حيث انتقلت من تقبّل بسيط إلى تقبّل أكبر. وعلى الصعيد العائلي، تشير قانصو إلى تمكّنها من قضاء وقت أكبر مع عائلتها خلافاً لما مضى. فتشيرالمصوّرة الفوتوجرافيّة إلى أنّ المشكلة لا تكمن في ديناميكيّة المكان، إنّما في تقييد الحريّة والامتناع عن ممارستها بشكل تلقائي في أبسط الأفعال كالخروج من المنزل مثلاً. وتخبرنا عن تجربتها: "في المرحلة الأولى، فهمت أنّه علينا التعايش مع هذه الأزمة من خلال البقاء في المنزل ومحاولة تنظيم العمل من دون القلق والتوتّر. فكنت أحاول المحافظة على هدوئي والتفكير بأنّ الأمور ستؤول إلى الأفضل. لكنّني شعرت في مكان ما أنّ العالم بأسره قرّر أن يتبرّأ من أرزاق الناس عندما رأيت شركات كبرى غير معرّضة للإفلاس تصرف موظّفيها. فشعرت أنّ ذلك غيرعادل حيث كان من الأحرى وضع خطط تؤمّن الدخل ولو المحدود للموظّفين في أوّل ثلاثة أشهر خصوصاً أنّهم لن يجدوا عملاً في مكان آخر. أمّا في الفترة التي تلَت قلت في نفسي أنّ العالم بالتأكيد سيتغيّرخصوصاً مع قراءتي للدراسات واتّطلاعي على مجريات الأحداث".

العودة إلى الطبيعة والجذور

وبينما وجد العالم بأسره نفسه مجبراً على الحجر المنزليّ باستثناء العاملين والعاملات في الخطوط الأماميّة في مواجهة الأزمة، شكّلت العودة إلى الطبيعة ملجأً للكثير من الناس الذين يعودون إليها في وقت الأزمات. وتقول قانصو:"ها قد عدنا في ظلّ الوضع الصعب الذي نمرّ به إلى الطبيعة وإلى هذا الشبّاك الذي نستطيع تأمّلها من خلاله". فهي وجدت نفسها محظوظة في هذه الفترة بالحصول على رفاهيّة الوقت للجلوس والدخول إلى أعماق ذاتها والتفكير، بعد أن كان نمط حياتها قد أصبح سريعاً جدّاً في ظلّ كلّ الضغوطات. وعندما تجلس في حديقة منزلها وتتأمّل الطبيعة، تنقسم أفكارها في اتّجاهين: الاتّجاه الأوّل يتعلّق بالطبيعة بحدّ ذاتها وما شهدته من تحسّن في الظروف الطبيعيّة والمناخيّة منذ بداية الأزمة، الأمرالذي يعطي الأمل بمستقبل أفضل. أمّا الاتّجاه الثاني فهو رؤية الخوف الناتج عن طريقة توقّف العالم في لحظة واحدة إثر تفشّي الفيروس. وهذا الاتّجاه يؤدّي إلى التفكير بالذات وإعادة النظر بالأولويّات وتقدير الأشياء البسيطة التي كانت تُعتبر بديهيّة.

الأمل والحياة المنبعثة من الورود

وفيما نتأمّل العمل الفنّي الخاصّ الذي شاركته قانصو معنا ليُعبّرعن رؤيتها للمرحلة القادمة، نرى الورود ذات الألوان الزاهية مع الحدود السوداء وكلمات النور والأمل والحياة المخطوطة باللّون الذهبي. وتفسّر لنا قانصو هذا العمل: "اخترت الورود ذات اللونين الأصفر والأحمر لأنّها تُعبّر عن الحياة وقد احتفظت بحدود سوداء تحيط بالورود لإبرازالتباين بين حقيقة الواقع الذي نعيشه وتصوّرنا عن كيف نريده أن يكون. فنحن نطمح أن تكون الأمور ملوّنة وجميلة وليس لها حدود، ويأتي هذا الخطّ الأسود ليعبّر عن الحدود بين الداخل والخارج، بين الحقيقة التي نعيشها في منازلنا والحقيقة الموجودة خارجاً. أمّا بالنسبة لكلمات النور والأمل والحياة المخطوطة باللون الذهبي الذي يعود بطبيعة الحال إلى عمل قانصو كمصمّمة مجوهرات وحرصها أن يكون هناك دائماً علاقة بين الوسائط التي تعمل عليها. فتوضح لنا: " بالعادة لا أستعمل كلمة أمل بل أستخدم كلمات مثل الحياة والنور والقوّة والعزيمة والحبّ إذ كنت أجد دائماً الأمل في النور. إلاّ أنّ هذه الكلمة بات لها معنى أكبر في هذه الأيّام. فجميعنا نتأمّل أنّه بعد كلّ ما مرّ به العالم جرّاء هذه الأزمة، ثمّة أمل بحياة أحسن ومستقبل أفضل لنا ولأولادنا. وما يساعد الإنسان على الإستمراريّة هو الأمل بأنّ الأمورستكون أفضل حتّى ولو كان يعيش في أسوأ الظروف".

لا شيء يقف في وجه الإبداع

أمّا طريقة تنفيذ هذا العمل، فكانت مميّزة جدّاً. كي تستطيع أن تترجم رؤيتها، لم تستطع قانصو الإستعانة إلاّ بما أمكنها الوصول إليه من معدّات في هذه الفترة الدقيقة. وتقول: "الفكرة الإبداعيّة كانت موجودة إلاّ أنّ المواد كانت محدودة بسبب الإغلاق". فعندما بدأت بهذا العمل الفنّي لم تكن الأقلام والريشة التي تستعملها في العادة بحوذتها في المنزل، كذلك لم تجد لديها الألوان المطلوبة فاضطرّت لاستعمال قلم مختلف للخطّ. وعندما تصفّحت المجلاّت الموجودة لديها لم تجد ما تريد من صور، فاستعانت ببنطال قديم كانت والدتها قد أعطتها إيّاه. وتخبرنا:"قصصت الورود من هذا البنطال الذي كان يحوي وروداً أخرى ذات ألوان أقلّ قوّة، إنّما اخترت هذه الألوان لأخلق تبايناً داخل العمل كما أشرت سابقاً".

وقد أخبرتنا قانصو أنّها شرعت في الفترة الأخيرة بالعمل على مشروع فنّي فوتوغرافي يعكس الوضع الحالي مع تفشّي وباء كورونا. وبما أنّها لم تتمكّن من الخروج والتصوير، استعانت بصور أغلفة من مجلاّت موجودة لديها منذ عشرات السنوات وعملت عليها بطريقة فنيّة مميّزة مع إضافات عدّة. كما أنّ كلمة "الأمل" تشغل مكانة كبيرة في هذا المشروع والورود ستكون موجودة فيه أيضاً لأنّها تحرص على ارتباط كلّ أعمالها في فترة محدّدة ببعضها البعض خصوصاً إذا كانت تعبّرعن فكرة مشتركة. وستشارك المصمّمة هذه الأعمال بعد انتهاء الأزمة في خلال معرض فنّي.

الاستثمار في الخدمات الصحيّة وليس في الأسلحة

وفيما خلقت قانصو هذا التباين في عملها الفنّي للدلالة على قراءتها للواقع الذي نعيشه وآفاقه، يمكن للبعض أن يتشاءم والبعض الآخرأن يتفاءل، أمّا قانصو فتميل إلى الواقعيّة عندما تنظر إلى المستقبل بعد الأزمة. وتقول: "لديّ تساؤلات الآن كما لديّ شكوك للمستقبل. فقد أصبح العالم مع هذا الوباء أمام نوع جديد من الحروب تستهدف ملايين الأشخاص في كلّ مكان في الوقت عينه، وهنا أهميّة استثمار الدول في الخدمات الصحيّة وليس في الأسلحة. فأتمنّى أن تنظرالدول إلى الأمور بطريقة مختلفة. نعم سيكون المستقبل مختلفاً، إنّما لدي شكوك بكيفيّة تعاطي الناس مع هذا الأمر". وتتابع: "أعتقد أنّ العالم سيتغيّر ولكن لن يكون هناك تغييرات جذريّة كما يتحدّث البعض، على الأقلّ ليس في المستقبل القريب. فأتوقّع أن يحتفظ الإنسان ببعض عاداته، إذ يمكن أن يغيّرها لمدّة سنة أو سنتين فحسب." وتشدّد: "ولكن إذا لم تقرّر الدول جمعاء الاتّحاد ليكون الإنسان الأهمّ على هذه الأرض، لا أعلم ما هو المهمّ! هل الروبوت والتكنولوجيا أهمّ من الإنسان؟ شخصيّاً لا أعتقد ذلك، والدليل أنّ التكنولوجيا لم تستطع أن تفعل شيئاً في وجه الأزمة الحاليّة. لكنّني أتأمّل أن يعود الإنسان إلى الذات والجذوروالهدوء، فما نفع الحياة إذا عشناها بهذه السرعة؟ كما أتأمّل أن نتشارك جميعاً ليكون هذا المستقبل أفضل لأطفالنا." كذلك تدعو المصمّمة المبدعة ليشعرالناس مع الآخرين الذين يرزحون تحت وطأة هذه الأزمة ويغيّروا سلوكيّاتهم ويقوموا بخطوات فعليّة لمساعدتهم كلّ شخص بقدر استطاعتهم. فتذكر في هذا الإطار ما تفعله دولة الإمارات العربيّة المتحدّة من خلال وجود مؤسّسات كثيرة تعمل لتأمين احتياجات هؤلاء الأشخاص.

تحقيق الإستمراريّة بالتوازن والتكاتف

تعتقد قانصو أنّه في المستقبل سيكون هناك تغيّرات على الأمد القصير وأخرى على الأمد البعيد. حيث يشكّل التباعد الإجتماعي وارتداء الماسكات والقفازات الواقية بالنسبة إليها حواجز سايكولوجيّة وفعليّة بين الأحبّة على المدى القصير. فتقول:" أتساءل أحياناً كيف سألقي التحيّة على الأشخاص الذين اعتدت أن أغمرهم بحرارة وهذا شيء محزن، كما أتساءل متى سأرى والديّ من جديد. أمّا على صعيد العمل، فقد بدأنا مؤخّراً بعودة كلّ شخص على حدى في يوم معيّن إلى المكتب، إنّما يشكّل ذلك تحدّياً لتنظيم العمل." أمّا على الأمد البعيد، فتؤكّد الفنّانة المتعدّدة الوسائط أنّه يجب التفكير بالضغوطات التي يضعها الإنسان على نفسه وكيفيّة الإنتاج والتسويق والتوسّع في الأعمال. ففي ظلّ هذا الوضع، سيكون هناك تحديّات عدّة تنتظر مختلف القطاعات سواء التصميم والفنّ أو غيرها. فكيف يمكن تخطّيها؟ تجيبنا قانصو: "يجب التمسّك بالأساسيّات وعدم التوسّع كثيراً. وهذا ما أعتمد عليه عادةً في طريقة عملي حيث تكون خطواتي صغيرة ومدروسة بهدوء وتروّي وعضويّة. أتمنّى ألّا يشعر المصمّمون أمثالي الذين لا يتمتّعون برأس مال كبير أو تمويل دائم أو شركاء بضرورة أن يصبحوا في قمّة العالم بأسرع وقت. عليهم ألّا يتسرّعوا ويأخذوا بعين الاعتبار الأوضاع الحاليّة وتحديداً سلوكيّات المستهلك، فيكون إنتاجهم بالحدّ الأدنى كي يحافظوا على مواردهم".

وفي هذا الإطار تخبرنا مصمّمة المجوهرات عن تعاون قامت به قبل هذه الأزمة مع علامة Gagà Milano للساعات في ميلانو. فكانت قد صمّمت لها ساعة بإصدار محدود تحمل رسم دبي في الخلف وتحوي كلمة الحياة في داخلها بما تحمله هذه الكلمة من علاقة متينة بالوقت. كما أنّ الأرقام داخل الساعة هي باللّغة العربيّة الأمر الذي لم تقم به هذه العلامة في السابق. وكان من المفترض أن تُطلق هذه الساعة في شهر مارس الفائت في دبي خلال فعالية يشارك فيها الطرفان مع نخبة من المدعويّين. إلاّ أنّ الأوضاع الحاليّة حالت دون ذلك، ومن هنا وانطلاقاً من حرصها وإيمانها بوجوب التضامن والتكاتف ودعم المشاريع بعضها لبعض للحفاظ على أرزاق الموظّفين ولو بالحدّ الأدنى، ستقوم قانصو بالاستثمارللمضي قدماً والتسويق لهذا المشروع. وتختتم: " في المرحلة القادمة علينا موازنة أفكارنا واستراتيجيّاتنا واستثماراتنا والتعاون مع بعضنا البعض للحفاظ على هذه السلسلة التي تجمع عملنا بعمل الآخرين".

فاطمه لوتاه:  "أتمنّى أن يحافظ الإنسان في المستقبل على الشفافيّة التي اكتسبها في داخله خلال هذه الفترة وألاّ يعود إلى الأمور التي كانت تتملّكه في السابق"

هي فنّانة تشكيليّة إماراتيّة تعيش في فيرونا منذ العام 1984 حاملةً بلادها في عروقها وفي كلّ نبضة من نبضات قلبها. إنّها فاطمه لوتاه التي حرصت على خلق مشاهد إماراتي للفنّ التشكيلي عبر رسم التراث الإماراتي والتطرّق إلى المواضيع المحليّة في ابتكاراتها وأعمالها الفنيّة. وبما أنّ كيانها وقلبها ما زالا في الإمارات فهي تعود دائماً إلى ديارها لعرض أعمالها. وهي منذ بداية مسيرتها حتّى اليوم تجدّد في طرق الرسم وفي المواد التي تستخدمها. فتعتبر أنّ الفنّان لا يمكنه أن يقوم بالشيء عينه طوال حياته بل عليه أن ينمو ويتفاعل مع التغيّرات التي تدفعه إلى اكتشاف أشياء جديدة وتقديمها ما يؤدّي إلى تجدّده وبالتالي تجدّد المشاهد المتابع له أيضاً. وفي ما يلي، تشاركنا قراءتها لهذه المرحلة وللمرحلة المستقبليّة التي تجسّدت في عملها الفنّي الذي أبدعته في إطار التعاون الحاصل في عددنا هذا.    

تعيش الفنّانة التشكيليّة فاطمه لوتاه في منزل يقع على تلّة تُطلّ على غابة، فيعطيها ذلك فرصة أن تعيش الطبيعة في عطرها وصوتها وكلّ تفاصيلها. إذ تلعب دوراً كبيراً في أعمالها الفنيّة، حيث تمثّل طاقة تدفعها للإبداع. كذلك هي مصدر لرؤية الألوان وابتكارها، فألوان شخصيّات لوحاتها التجريديّة مأخوذة من الطبيعة سواء من صحراء الإمارات أو من خضار فيرونا. وهي بالرغم من وجودها في مدينة غروبيّة أو بالأحرى رصاصيّة، كما تصِفها، تستخدم ألوان مركّزة وقويّة كألوان الصحراء لأنّ هذه الألوان مطبوعة في روحها ولا يمكن لها أن تتخلّى عنها. وتذكِّرأنّها في مرحلة معيّنة قصدت رسم لوحات مستوحاة من التراث الإماراتي لخلق مشاهد إماراتي للفنّ التشكيلي يستطيع التعايش مع اللوحة وقراءتها والجلوس والحوارمعها.

واليوم في ظلّ انعدام حركة السيارات والمرور ودخول الناس في الصمت مع حظرالتجوّل الناتج عن تفشّي فيروس كورونا، وجدت أنّ لديها فرصة أكبر للاستماع إلى أصوات الطبيعة. وتؤكّد: "لديّ الفرصة للاستماع إلى ما لم أكن أستطيع سماعه من قبل، علماً أنّني أمارس التأمّل منذ 30 سنة ما يساعدني عادةً على الاتّحاد بالكون والطبيعة بالرغم من الضجيج المحيط". كذلك قد ساعد التأمّل لوتاه على عدم التأثّرسلبيّاً بالحجرالمنزلي والعزل، بل على العكس اعتبرت أنّ هذه الفترة فرصة من ذهب للتركيزعلى داخلنا والولوج إلى نفوسنا. وتؤكّد لنا: "هذا الوقت هو هديّة للتفكير بالحاضر والمستقبل كي يشعرالناس بجمال أنفسهم ويتمتّعوا بوجودهم ويحسّنوا من روحانيّاتهم."

تحكّم الإنسان بنفسه وبالوقت

فبينما كان الناس يركضون في السابق بسبب السرعة التي خلقها نمط حياتهم، شعرت لوتاه مؤخّراً أنّهم باتوا يتمتّعون أكثر بوجودهم خلال هذه الفترة، كما أصبح هناك فرصة للتحاور بين العائلات وإمضاء الوقت بصحبة بعضهم البعض. وفيما تشدّد على أهميّة طاقة الوقت التي تعتمد على طاقة الأشخاص الذين يعيشون في المكان نفسه فيشعرون أنّ الوقت يمرّ بسرعة أو ببطء بحسب نمط حياتهم، تؤكّد: "أصبح الناس خلال هذه الفترة يتحكّمون بوقتهم وليس الوقت يتحكّم فيهم."

فتتمنّى الفنّانة التشكيليّة أنّ يقيّم الإنسان نفسه بعد هذه الأزمة ولا يدَع الوقت يتحكّم فيه بعد الآن بل أن يتحكّم بالوقت وبنفسه. وهي تأمل ألّا يكون المستقبل قاسياً بعد الأزمة إنّما تتخوّف من وجوه سلبيّة كتغيّرات اقتصاديّة عالميّة أو نقص في تأمين الغذاء في بعض المناطق بسبب عدم القدرة على الزراعة أو حصاد المحاصيل أو من تعرّض الأشخاص لأزمات مثل البطالة تفقدهم هدوءهم. ولكن كعادتها تتمسّك لوتاه بالتفاؤل وترجو أن تمرّ هذه الأزمة بسرعة وسلام. كما تدعو إلى التّمسك بالإيجابيّات التي وُجدت في هذه الفترة كالهدوء في نمط حياة الناس.

المحافظة على الشفافيّة المكتسبة

تعبّر لوتاه عن هذه الرؤية للمرحلة القادمة التي تتمنّى أن تكون إيجابيّة من خلال لوحة أبدعتها خصيصاً لعددنا. فعندما نتأمّل هذه اللوحة المفعمة بالأوان الربيعيّة، فنرى شخصيّتين تتّسمان بالشفافيّة وبالإيجابيّة، فنشعر بالرغبة في اللقاء وبشفافيّة الوجود. إذ تشرحها لنا في ما يلي:" اللوحة عبارة عن تقاسيم نرى فيها شخصيّتين شفّافتين تقريباً لأنّني استخدمت مساحيق ألوان عبارة عن Powders وبعدها أدخلت فيها الأكريليك. ورغم الشفافيّة فيهما، هناك مسافة بينهما فيها بعد معيّن لأنّه علينا المحافظة على هذا البعد للمحافظة على الذات. أمّا الألوان فهي ربيعيّة للدّلالة على الأمل". ويعود تحديد هويّة الشخصيّة والإحساس بوجودها بحسب لوتاه للمشاهد نفسه، حيث يمكن رؤية رجل وامرأة أو امرأتين. فبرأيها مثلاً يمكن أن تظهرالشخصيّة على يسار اللوحة كشخصيّة من الطوارئ، أو شخصيّة من الصحراء المغربيّة. إلاّ أنّها تؤكّد أنّ المشاهد الذي يرى اللوحة عليه أن يجلس ويتمعّن فيها ويحاول محاورتها ويعرف ماذا تريد أن تقول له. وقد برزت الشفافية في الشخصيتين التي رسمتهما لوتاه، لأنّها تتمنّى أن تراها في الناس بعد انتهاء الأزمة، وتقول: "أتمنّى أن يحافظ الإنسان في المستقبل على الشفافيّة التي اكتسبها في داخله خلال هذه الفترة وألاّ يعود إلى الأمور التي كانت تتملّكه في السابق".

نوافذ على مدن صامتة

فيما ظهرت رؤية الفنّانة الإماراتيّة وآمالها للمستقبل في العمل الفنّي الذي أبدعته لنا منذ بدء حظر التجوّل في إيطاليا، عملت على مجموعة من اللوحات أسمتها "نوافذ على مدن صامتة" تتناول المرحلة الحاليّة التي أطلقت عليها اسم "المدن الصامتة". ويبرز في خلفيّة هذه اللوحات اللون الأسود الذي نادراً ما تستخدمه في فنّها. وتشرح لنا: "جاء هذا السواد ليعبّرعن غموض المرحلة ويعكس ضوء النوافذ على المدن الصامتة وليس عن السلبيّة. فالغموض هو مرحلة إنّما النور يأتي من الشخصيّات البارزة أي من الناس أنفسهم". وهي لم تعمد إلى التفكير بذلك ومن ثمّ رسمه، إنّما الحالة فرضت نفسها عليها وجعلتها ترسمها. فتؤكّد: "عندما أبدأ بالرسم يبدو وكأنّ اللوحة هي التي تُخرج ما تريد وليس ما أنا أريده. فتظهر حالتي الداخليّة وليس عقلي، لأنّ اللوحة طاقة يخرجها الفنّان عندما يعمل عليها، وهي تبرز بشكل متوازن تماماً مثل الكون."

التركيز على الجمال لجذب الجمال

وقبل فترة الإغلاق التي شهدها العالم، كانت الفنّانة التشكيليّة تحضّرمعرضاً في دبي تحت عنوان "Reflection". وتأمل بعد انتهاء الأزمة والتمكّن من السفر بأمان من جديد، إقامة هذا المعرض مجدّداً بالإضافة إلى معارض أخرى يمكن أن يكون ضمنها معرضاً للوحات "نوافذ على مدن صامتة" ومعرضاً ضمن افتتاح Expo 2020 Dubai. ولكنّها تشير إلى أنّ كلّ هذه الفعاليّات مؤجّلة في انتظار أن تمرّ هذه الأزمة بسرعة وسلام فيما نركّز على الأشياء الجميلة.

ولأنّ كل ما يحيط الإنسان مؤخّراً أصبح قبيحاً، تدعو لوتاه الفنّانين أن يعملوا على الجمال وليس على القبح، لإبراز الأشياء الجميلة في لوحاتهم. وتقول: "هذا الجمال سينعكس على المشاهد لأنّ الجمال يجذب الجمال ويخلقه، وبهذه الطريقة يمكن أن يلعب الفنّ دوراً إيجابيّاً في حياة الناس." وبالرغم من أنّ الفترة المقبلة يمكن أن تحمل تحديّات عدّة للكثير من الفنّانين، إلاّ أنّها تعتبر أنّ طالما الرغبة موجودة لديهم، فالإبداع ممكن ولو بأدوات وطرق مختلفة. وهذا برأيها أمر إيجابّي يمكن أن يحوّل الفترة القادمة إلى فترة إنتاج فنّي مختلف!   

نور فليحـان: "تركّز رؤيتي على الحريّة والقدرة على الحلم لابتكار عالم بديل حيث أحلامنا تمثّل واقعنا"

هي رسّامة رقميّة طموحة ومفعمة بالأحلام. ولدت نور فليحان في الولايات المتّحدة الأميركيّة من أبوين لبنانيّين وترعرعت في الكويت. وبعد دراستها المنسوجات والاتّصالات المرئيّة، وجدت نور في الرسوم التوضيحيّة وسيلةً للتعبير عن أفكارها ونفسها. إلا أنّها تهدف اليوم إلى تطوير هذه الوسيلة عبر إضافة الحركة إليها، حتى أنّها بدأت مؤخراً في استكشاف صناعة الأفلام. وتحرص نور على أن يتأثّر الناس بكلّ عمل تبتكره، سواء من خلال الرسالة التي تريد إيصالها من خلاله أو عبر تسليطه الضوء على ما يحدث في العالم أو عن طريق الموضوعات التي تتناولها فيه كتمثيل المرأة هويّتها وحقوقها. وفي ما يلي تشاركنا رؤيتها للمستقبل بعد أزمة تفشّي فيروس كورونا وتشرح لنا أكثر عن العمل الفنّي الذي أعدّته في إطار هذا التعاون.

منذ أيّام الدراسة، لم تعِش نور قطّ في مكان واحد لفترة طويلة من الزمن. لا بل سافرت دائماً من بلد إلى آخر لمتابعة مشاريع العمل أو لرؤية عائلتها، فكيف تعاملت مع الحجر المنزلي مؤخّراً؟ أخبرتنا فليحان أنّه بالرغم من عدم قدرتها على التّحرك بحريّة والسفر، تكيّفت بسهولة مع الواقع الذي فُرض عليها، فهذا جزء من شخصيّتها. وتشرح لنا هذه الصفة بالقول:"أنا لا أتعلّق عاطفيّاً بموقف أو مكان معيّن، لأنّني أعلم أنّه لن يدوم لإنّه مؤقت".

ارتباط قويّ بالطبيعة

تتميّز أعمال نور الفنيّة بسمات مشتركة منها وجود المرأة والنباتات وكلّ ما يرمز للشعر. وإذا وجد الناس ملجأهم في الطبيعة في خلال أوقات الأزمات، فإنّ علاقة نور معها تعود إلى ما قبل فترة العزل. حيث تقول: "علاقتي بالأرض والطبيعة وارتباطي بهما أتى من تربيتي. إذ إنّ والدتي مرتبطة بالأرض.فخلال طفولتنا اعتدنا على العودة إلى لبنان وزيارة الأسرة التي تعيش في الجبال. وهذا الاتّصال بالطبيعة منحني إحساساً بالسلام". كذلك، في أيّ وقت تسافر فيه، تحرص نور دائماً على وجودها في منطقة تضمّ حديقة أو مساحة خضراء على الأقلّ، حيث يمكنها التنفّس والشعور بالوقت. وتصف شعورها بالتالي: "أبدأ في سماع صوت نسيم الأشجار والطيور، وأشمّ رائحة الزهور وأستمتع بتلك اللحظة بالذات". وتركّز الرسّامة الرقميّة على أنّه من المدهش اليوم كيف يعيد الناس التواصل مع الأرض، لأنّه بات لديهم الوقت".

صورة المرأة في وسائل الإعلام

تلقي نور الضوء أيضاً على هويّة الأنثى وتمثيلها في فنّها. فأثناء نشأتها في منطقتنا، لم تستطع التواصل مع نساء يشبهنها في وسائل الإعلام، سواء كانت تلفزيونيّة أو مكتوبة، أو في الأعمال الفنيّة أو الكتب. وتؤكد: "لم أرَ نفسي يوماً في المرأة التي تصوّرها وسائل الإعلام. لذا أشعر أنّ هذا الإحساس بالحصريّة ومجرّد القدرة على التواصل مع فتيات أخريات أمر مهمّ جداً. حيث يرين أنفسهنّ ويجدن ذاتهنّ في أعمالي. لأنّه من المهمّ جداً بالنسبة إلينا كنساء عربيّات أن نرى أنفسنا في مختلف وسائل الإعلام، من الفنّ إلى المجلّات والأغلفة والكتب. هذا وأدركت نور من خلال مسيرتها، أنّه ثمة الكثير من المشاكل المتشابهة التي تلمس الكثير من الناس، وبمجرّد فتح الحوار، تساعد حقاً الآخرين على الانفتاح والتحدّث عن أنفسهم أيضاً. وتقول: "فهمت أنّه لا يجب أن أقوم بالرقابة على نفسي، لأنّه من المهمّ أن أكون صادقة وأن أقول الحقيقة من خلال أعمالي التي تتمّ مشاركتها عبر الحدود والتي لا تقتصر بالضرورة على معرض أو مساحة محدّدة". وقد نشأ حول أعمالها مجتمع يشمل الناس الذين يشعرون بالراحة للجلوس وفتح المحادثات والمناقشة والتعلّم بعضهم من بعض.

عالم بديل حيث أحلامنا هي واقعنا

وعندما ننظر إلى الرسم التوضيحيّ الذي أعدّته نور في إطار هذا التعاون، نرى النباتات والكتب التي تشير إلى الشعر والشخصيّات النسائيّة التي تُميّز أعمالها في العادة. إلاّ أنّ ثمّة لمسة خاصة وحالمة يضفيها استخدام هذه السّمات سويّةً ضمن هذا الرسم. وتشرح لنا ذلك بالقول: "اكتشف الكثير منّا عالم الأحلام عن كثب في هذه الفترة، لأنّنا امتلكنا الوقت للجلوس والانخراط فيه، سواء غصنا في أحلام النهار أو في أحلام الليل. وفي حين لم يحظَ البعض من قبل بالوقت الكافي ليحلموا أو اعتادوا نسيان أحلامهم، إلّا أنّهم اليوم يعيدون التفكير في الماضي والمستقبل، وأصبحت أحلامهم أكثر حيويّة وقوّة. لذلك، أردت أن أركّز في هذا العمل الفنّي على حريّة الأحلام والقدرة على الحلم وابتكار عالم بديل حيث أحلامنا تمثّل واقعنا". وعن مزيج الطبيعة والشِعر والمرأة، تقول: "إنّ الطبيعة مكان نتباطأ فيه، ممّا يمنحنا مساحة للحلم. كذلك، تساعد قراءة الشِعر أو الكتب على الهروب من الواقع وتخلق في ذهننا عالماً آخر بمثابة واقع بديل يمكننا أن نختبره". أمّا بالنسبة إلى الشخصيّات الثلاثة، فالشخصيّة الأولى التي تشُمّ الزهرة تمثّل والدة نور. فتقول: "أدرجت أمي في هذا العمل لأنّها الشخص الذي أراه كلّ يوم في خلال هذه العزلة التي منحت علاقاتنا عمقاً مختلفاً." أمّا الشخصيّة الثانية فهي صديقة نور القاطنة في بيروت. وتخبرنا الفنّانة الشغوفة: "تعمل صديقتي التي تحمل اسم نور صليبا في الصناعة الإبداعيّة وهي شخص يمكنني التواصل معه. ودمجتها في هذا العمل لأنّني تمنّيت رؤية نساء مثلها ومثل والدتي على أغلفة المجلّات وفي وسائل الإعلام أثناء نشأتي. فهما تتمتّعان بميزات الحقيقة والواقعيّة." أمّا الشخصيّة الخجولة الثالثة التي تختبئ وراء الكتاب وتحلم بالعوالم الأخرى فاصلةً نفسها عن الواقع وكلّ ما يحدث حولها، فهي نور نفسها عندما كانت طفلة.

التمسّك بالفرادة

وتعبيراً منها عن الواقع البديل الذي تريد اختباره شخصياً في حياة اليقظة، جمعت نور الطبيعة والشِعر والمرأة في هذا العمل الفنّي. وعند تفكيرها في المستقبل، تأمل أن يتمسّك الناس بفرادتهم، وتشرح رؤيتها بالتالي: "يأخذ الكثير من الناس منذ بداية الأزمة الوقت ليكونوا مع أنفسهم ويعيدوا اكتشاف ذاتهم، وليركّزوا على ما يريدون تغييره في المستقبل. وكلٌّ يتعامل مع هذه الأزمة على طريقته الخاصّة وليس وفقاً لما يفرضه الآخرون. وبصراحة، إنّ الأمر الوحيد الذي آمل أن يتعلّمه الجميع من هذا الوباء، هو أن يفهموا أنفسهم أكثر وأن يدركوا أنّهم يستطيعون قبول هويّتهم بدون الحاجة إلى مَن يخبرهم كيف يجب أن يكونوا أو أن يتصرّفوا، أي أنّني أتمنّى أن يحبّوا ذاتهم ويقدّروها. فشخصيّاً، كنت أشعر قبل تفشّي هذه الأزمة أنّ الناس أرادوا أن يكونوا مثل الآخرين واتّباع الصيحات والتطلّع إلى نفس الأشخاص".

الفنّ يزرع بذرة الأمل

أعطت هذه الفترة نور فرصة للتركيز على عملها الخاصّ كفنّانة. وتشرح لنا ذلك بالقول: "في السابق، ابتكرت معظم أعمالي بتكليف من الزبائن الذين يحدّدون الخطوط العريضة للعمل ومواعيد التسليم. أمّا الآن، فلديّ الوقت الكافي للجلوس والتعبير عن نفسي. وشعرت أنّني بدأت في اكتشاف جانب شاعريّ من نفسي لم أستطع مشاركته مع العالم سابقاً، وعرفت أنّه الوقت المناسب لمنح الناس الأمل، ففي عالم الأخبار السيئة التي لا تنتهي، من المهمّ أن يبتكر الفنّان أعمالاً حالمة بعيدة عن الواقع قليلاً لزرع بذرة أمل في نفوس الآخرين."

ونظراً إلى أنّها تمنح نفسها الوقت والمساحة لاستكشاف فنّها والتطوّر وإيجاد طرق لتحدّي نفسها الآن، شعرت نور بأنّ هذه الفترة قد غيّرت منظورها إلى الأمور. فبدأت تبحث في الرمزيّة التي لم تستطع اكتشافها بتعمّق من قبل. وتشرح قائلةً: "أشعر بأنّ جزءاً من عملي يتطوّر إلى حالة غير رمزيّة لجسمنا بالكامل، بل تجاه تمثيل عناصر منه فحسب تتحدّث عن نفسها مثل إيماءات اليد والحركات والتعابير". وفي المستقبل، بينما لا تزال تعمل في هذه الصناعة، تودّ نور التركيز على مشاريعها الشخصيّة لا سيّما وأنّها فهمت نفسها أخيراً كفنّانة. كذلك، تأمل أن تكون قادرة على ابتكار علامة خاصّة بها. وتقول لنا: "في خلال هذه الفترة، أدركت أيضاً أنّ الأشخاص يتواصلون مع القطع الملموسة التي يمكنهم حملها ويشعرون بها، لذلك أريد ابتكار قطع يمكن للناس الاحتفاظ بها، تخرج عن نطاق وسائل التواصل الاجتماعيّ والمنصات الرقميّة".

اقرئي أيضاً: Ashwaq Abdulla: فلتحلّق رسوماتي إلى العالميّة

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث