المرأة التّتريّة بيْن الأصالة والحداثة

قصّة نساء مُلهمات شارَكنَ في نهوض مجتمعهنّ

لعبَت المرأة عبرالتّاريخ دوراً أساسيّاً في تطوّرالشّعوب ونهضتها. فقد كان لها منذ العصور القديمة مشاركة فاعلة في كلّ ميادين المجتمع سواء خارج المنزل لجهة العمل في مجالات مختلفة أو داخلَه لجهة تربية الأطفال وتحَمّل مسؤوليّة إدارة أمور المنزل. وحتّى لو لم يكُن هذا الدّور بارزاً إلى العلَن فيما مضى، فقد بدأ تدريجيّاً مع تطوّر الحضارات والمجتمعات بالمثول إلى الواجهة. فأصبَح تمكين المرأة والتّشديد على أهميّة مشاركتها في إدارة المجتمع من الأولويّات، عِلماً أنّ لوْلا الدوْر الذي لعِبَتهُ النّساء في النّهوض بمجتمعاتها لما كانت الحضارات وَصلَت إلى ما هيَ عليْه اليَوم. لذلك، يَغدو التطرّق من وقتٍ إلى آخر إلى هذا الدّور الذي لعبَته نساء بعض الشّعوب في تطوّر مجتمعاتها ضروريّاً للتّعرّف على مدى تأثيرها على عادات وتقاليد واستمراريّة شعبِها ولإستقاء العِبَر من سلوكيّاتها. وفيما يلي سنَغوص سويّةً في عالم المرأة التّتريّة لنكتشف بعض الوقائع التي تُظهر مدى تأثير هذه المرأة على ارتباط شعبِها بعاداته وتقاليده.

تُشكّل جمهوريّة التّتارالمعروفة ب "تتارستان الرّوسيّة" جزءاً أساسيّاً من النّسيج الروسي المتعدّد القوميّات. وتمتدّ مُدن التّتاروقُراهم على طول ضفاف نهر الفولغا وتحديداً في الجزء الشّرقي الأوروبي من أراضي روسيا الشّاسعة. وقَد لعِبَ التّتار ذوي الأصول واللّغة التّركيّة والمعتَقَد الدّيني الإسلامي دوْراً أساسيّاً في نهضَة روسيا عبر التّاريخ. ويَجدُر الذكر أنّه لا توجد أيّة علاقة بيْن القوميّة التتريّة الروسيّة ذات الأصول التركيّة والديانة الإسلاميّة ومفهوم ما سمّاه الغرب سابقاً بالتّتاروالمغول الذين لديْهم جذورمختلفة ومعتقدات وثنيّة ولُغة خاصّة. وتُعتبَرالمناطق التّي يسكُنها التّتارالرّوس باردة للغاية وهي غنيّة بالثلوج وبغابات الصنوْبَر وبشَجر "البريوسكا".

اقرئي أيضاً: عندما‭ ‬تدرك‭ ‬المرأة‭ ‬قيمتها‭ ‬لن‭ ‬يشكّل‭ ‬الجندر‭ ‬عائقاً أمامها

المرأة التتريّة رُكنٌ أساسيٌّ في مجتمعها

وفي هذه البيئة الغنيّة طبيعيّاً وحضاريّاً، كانت وما تزال المرأة تُشكّل رُكناً أساسيّاً في نهضة شعبِها والمحافظة على تقاليده. فيتميّز البيْت في القرى التتريّة بمواصفات تُحدّدها عادةً المرأة. وهو يُبنى بالكامل من خشَب الصنوْبَر. ويُعتَبَر الفرن الحجرّي الذي يعمَل على حَطب الصنوْبَر رُكناً أساسيّاً في البيْت. فهو يتمتّع بمساحة كبيرة وتوجَد فوْقه منصّة يجلُس عليْها أفراد العائلة خصوصاً في فصل الشتاء القارس ليتسامروا ويناموا فيها من شدّة دفئها. فيشعُر جميع أفراد العائلة بالدّفء والحرارة خصوصاً عندما يشتدّ البرد القارس وتتراكم الثّلوج. وبما أنّ المادّة الأساسيّة المستَخدمة للتّدفئة في هذا الفرن هي حطَب الصنوْبر، فإنّها تترُك رائحة ذكيّة في كافّة أنحاء البيْت. كذلك تقوم المدخنة الرّئيسيّة بمهمّة تنظيف الهواء. وبالإضافة إلى التّدفئة، يقوم هذا الفرن بمهمّات مختلفة. فتستعمله النّساء لطهيْ أنواع مختلفة من المعجّنات والحلويات ولشيّ اللّحوم وطبخ الأطعِمة السّاخنة. ويوجد عادةً في فناء كلّ بيْت، منطقة خاصّة للإعتناء بالمواشي وتربية الدّواجن على أنواعها، بالإضافة إلى حديقة تُزرَع فيها الخُضاروالفاكهة. ولا ننسى العسَل الذي يُعتَبَرمن الأغذية التي تدخُل في نظام هذا الشّعب الغذائي.

وبما أنّ الكثيرمن الرّجال التّتارلَقوا حَتفَهُم خلال الحربيْن العالميّتيْن، أصبحت النّساء تعتَمِدن أكثَرعلى أنفسهنّ. فتستيْقظ المرأة في الصّباح الباكر، لتجمَع البيْض وتَحلُب الأبقارالتي تُرسَل لاحقاً إلى المراعي مع راعي متخصّص خلال النّهار. وبعد ذلك، تُحضّر الأولاد للذّهاب للمدرسة. ثمَّ تبدأ بتحضيرالمأكولات السّاخنة والباردة. وبعد أن تنْتَهي من مهمّاتها المنزليّة، تتَشارك مع النّساء الأخريات بحياكة الألبسة والتّطريز والرّسم على الخشَب. فتُظهِر كلّ واحدة منهنّ مهارتها. وتُصنّف هذه المرأة كإداريّة بامتياز، فهي تقوم بكلّ هذه الأعمال بصورة منتَظَمة كيْ لا تشعُر بالإرهاق. وهيَ تحرُص على الإعتناء بصحّتها وزَهوْتها وتعتَمِد في طهيْ الأطعمة على الوسائل الصحيّة والأطعمة التّي تتكوّن غالباً من المحاصيل الموسميّة. كما لا تفقُد المرأة التتريّة أبداً حيويّتها، وجمالها يزداد تألّقاً مع تقدّمها في العمر.

اقرئي أيضاً: عندما‭ ‬تلتقي 8 ‬فنّانات‭ ‬عربيّات‭ ‬متمكّنات‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬وثائقيّ‭ ‬واحد Strong‬‬

المرأة التّتريّة تتقبّل نفسها ونظيرَتها

صحيحٌ أنّ المرأة التّتريّة مسلمة، إلاّ أنّها لديها عادات خاصّة. فتقوم النّساء التّتريات بتقاليد مُختلفة تؤدّي إلى زيادة اللّحمة بيْنها وبيْن عائلاتها ومُحيطها. بيْن هذه التّقاليد نذكُر حمّام السونا. حيْث يوجَد في كلّ فناء خارجيّ، حمّام سونا مَبنيّ من الحجرتَغلي المياه بداخله باستمرار. وكما في الفرن، يُستَعمَل فيه أيضاً حطَب الصنوْبَر لغَليْ الماء. ويُعتَبَرهذا الحمّام مكان تقليديّ تجتمِع فيه النّساء والرّجال، كلّ مجموعة على حدة، في فصل الشتاء البارد خاصّة للتّسامر والإستمتاع بالوقت. وعندما يتمّ الدّخول للإستحمام، يشعرالمرء بحرارة مُرتفعة خصوصاً عند خُروج البخارمن الحيطان الخشبيّة. وبعد أن يملأ البخارهذا الحمّام السّاخن، يُضرَب الجسم بمكنَسة مصنوعة من ورق البريوسكا، فيشعُر المرء بأنّه وُلِدَ من جديد فتَخرُج السّموم والأوساخ من الجسم. وعندما يُدلّك الجِسم بهذه المكنسة يتخلّص المرء بهذه الطّريقة من الجلد الميْت. ويشكّل هذا الحمّام لِقاء بيْن نساء العائلة. فهنّ يدخُلنَ عاريات سويّةً إلى السونا لِيَقُمنَ بهذا التقليد. فيتكلّمن بارتياح الواحدة مع الأخرى، في حين تتقبّل كلّ واحدة منهنّ جَسدها وجسَد الأخرى.

اقرئي أيضاً: Mishmashi‭‬ كلمة‭ ‬ابتكرناها‭ ‬لنشجّع‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬تقبّل‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬يحبّونه

المرأة التّتريّة تنقل ثقافة شعبها من جيل إلى جيل

ونَجاح المرأة التّتريّة في المُدُن لا يقلّ أهميّةً عن نجاحها في القرى. فهيَ دَخَلَت كلّ ميادين العمَل بقوّة وأصبَحت شريكة أساسيّة في كلّ المجالات. ونراها اليوم تبرُز بيْن أفضل الأطّباء والعلماء والفنّ والرّياضة. فتَلمَع في عملها في المؤسّسات والتّعليم والطّبابة والمصانع، ولا يوجد مجال إلّا وساهمت المرأة التّترية في تطويره وتنمِيَته. وسواء عاشَت في القرية أو المدينة، فهيَ تحرُص على نَقل ثقافتها وعاداتها وتقاليدها والأغاني والأناشيد بكلّ أمانة إلى أولادها وأحفادها، فتترسّخ هذه الثّقافة من جيل إلى جيل. وبالرّغم من وصول المرأة التتريّة إلى أهمّ منصّات العالم، فهيَ لم تنسى قطّ من أيْن أتَتْ. وهي اليوم تُمكّنَّ النّساء الأخريات محافظةً على تقاليدها وعاداتها. فتُعتَبَرهذه المرأة المميّزة قدوةً لنظيراتها في عصرنا الحاليّ.

اقرئي أيضاً: لم تعُد خيارات النساء المهنيّة في السعوديّة محدودة

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث