عندما يجتمع فنّ الصمود بالتراث الوطنيّ

 

https://vimeo.com/290860863

 

الإعداد: Arzé Nakhlé

التصوير: Christian Abi Abboud

الإدارة الفنّيّة: Farah Kreidieh

يستيقظن في الصباح الباكر، وبين عمل منزليّ وآخر ينكببنَ على التطريز بشغف وحبّ، أكانت عباءة أو حقيبة أو وشاح أو أيّ تصميم آخر. لكلّ منهنّ قصّة حيكت بخيوط من الكدّ والصبر والشجاعة والأمل. لكنّ ما يجمعهنّ هو الصمود والبحث عن مستقبل أفضل... لنتعرّف معاً في هذه السطور على الأيادي السحريّة الكامنة وراء التصاميم الرائعة المعروضة لدى مؤسّسة “إنعاش” وعلى قصصهنّ المختلفة. فالابداع ليس مشروطاً بالفخامة والرفاهيّة، إنّما يمكن أن يتجلّى في مخيّم صغير فقير بمادّيّاته لكن غنيّ بقلوب سكّانه الجميلة وأناملهم النشيطة والمبتكرة.

اقرئي أيضاً: سيّدتان عربيّتان ضمن لائحة BoF500

 

في خلال السنوات الخمسين الماضية، ساهمت مؤسّسة "إنعاش" Association for the development of Palestinian Camps Inaash في تمكين مئات النساء القاطنات في مخيّمات اللاجئين الفلسطنيّين في لبنان وكذلك في تأمين الاستمراريّة لهنّ ولعائلاتهنّ، وبالتالي في المحافظة على تماسك هذا المجتمع. تأسّست هذه الجمعيّة في العام 1969، وهي جمعيّة لبنانيّة غير حكوميّة أرستها السيّدة هوغيت كالان، ابنة الرئيس السابق للجمهوريّة اللبنانيّة بشارة الخوري، بمؤازرة سيّدات لبنانيّات وفلسطينيّات. وأسّست أوّل مشغل لتدريب النساء على الحياكة والتطريز في مخيّم شاتيلا. وتخبرنا السيّدة ميا قرم، نائبة رئيسة الجمعيّة والعضو في مجلس الإدارة، بأنّ بينما كانت والدتها في رحلة إلى نيويورك آنذاك، عثرت على متجر يبيع منتجات مطرّزة على أنّها اسرائيليّة الصنع والمنشأ، في حين يمثّل التطريز هويّة التراث الفلسطينيّ. ولدى عودتها، قرّرت الجمعيّة الاعتماد على التطريز بشكل خاصّ لتنمية الوعي تجاه التراث الفلسطينيّ والمحافظة على الثقافة الفلسطينيّة. فبدأت بزيارة اللاجئات برفقة خيّاطة لتعليمهنّ التطريز، ثمّ انتقلت هذه الحرفة من جيل إلى جيل بين أولئك النساء.

واليوم، تستمرّ جمعيّة "إنعاش" في مهمّتها الإنسانيّة والثقافيّة والفنّيّة. فتؤمّن العمل لمئات النساء والفتيات الفلسطينيّات وتسلّط الضوء على الدور الرياديّ لمهارة التطريز الفلسطينيّ الذي تضطلع به النساء في المخيّمات في لبنان وكذلك على الوجه الإيجابيّ للهويّة الفلسطينيّة. وبالرغم من الحرص على المحافظة على التصاميم التقليديّة والهويّة الفلسطينيّة، تبتكر الجمعيّة تصاميم إبداعيّة وتنوّع في الإنتاج تماشياً مع متطلّبات الأسواق الدوليّة. وتؤكّد لنا السيّدة قرم أنّ المؤسّسة تطمح لانخراط الفتيات الناشئات في مدرسة "إنعاش" المخصّصة لتعليم هذه الحرفة. وزرنا معاً مخيّم الراشديّة في صور في جنوب لبنان، الذي تمكّن فيه الجمعيّة مئة امرأة وفتاة عبر تأمين العمل لهنّ. فتجلب لهنّ الخيوط والأقمشة والتصاميم وتضع لهنّ الخطوط العريضة للتصاميم التي ينبغي عليهنّ التقيّد بها.

اقرئي أيضاً: أعطوها حقوقها وخذوا ما يدهش العالم

العمل للحفاظ على الاستقلاليّة

بدأت ساميا شحرور، البالغة من العمر 39 سنة، بالعمل مع مؤسّسة "إنعاش" عندما كانت في 15 من عمرها. في ذلك الوقت، كان هذا العمل يؤمّن لها المدخول المناسب لشراء الثياب وحاجاتها الخاصّة. وورثت هذه الحرفة عن والدتها التي كرّست نفسها لهذا العمل بعدما تطلّقت من والدها. فتعلّمت ساميا منها أهمّيّة أن تكون منتجة ومستقلّة ومسؤولة عن نفسها. وبعد زواجها، لم تتوقّف عن التطريز، بل أكملت تعاونها مع "إنعاش". ورحّب زوجها باستمرارها بهذا العمل، فيتقاسمان بذلك مصروف المنزل: الزوج يؤمّن المأكل والمشرب، أمّا هي فتؤمّن الملبس والأغراض المخصّصة للمدرسة لأطفالها الثمانية. وسرعان ما علّمت فتياتها ممارسة هذه المهنة حتّى أضحى لكلّ واحدة منهنّ عمل تخصّصه لها الجمعيّة. وتعلّمهنّ اليوم ما علّمته إيّاه والدتها، وهو أنّ الإستقلاليّة تأتي أوّلاً. وبذلك تمكّنهنّ وتشعرهنّ بالمسؤوليّة. لا تنظر ساميا إلى هذه الحرفة بمثابة فنّ، إنّما تعتبرها عملاً يساعدها على الصمود. تنتظر بفارغ الصبر قدوم الجمعيّة إلى المخيّم لتأخذ العمل المخصّص لها.

وتقول: "أزواجنا يعملون في القطاف والزراعة لأنّهم لا يستطيعون ممارسة كلّ المهن، وفي كثير من الأوقات لا يجدون عملاً، لذلك عملنا في التطريز هو بمثابة جهاد يتخلّله الكثير من المجهود، لكن لا يمكننا العيش بدونه".

 

لا تستذكر ساميا أيّ ذكريات جميلة، إذ تؤكّد أنّ حياتها بأكملها تعب وشقاء لتأمين مستلزمات الحياة الأساسيّة. لكنّها تشير إلى أنّ دعم أطفالها إيّاها يسرّها، وعملها مع "إنعاش" يشعرها بالفرح.

لكنّها تتخيّل أنّها لو كانت في وطنها الأمّ لكانت على مقربة أكبر من السعادة التي تحلم بها، إذ ستكون لها أرضاً تزرعها وتهتمّ بها. لدى ساميا الكثير من الأحلام لأطفالها، إذ تريدهم أن يتعلّموا ويتخرّجوا من الجامعة ويعملوا في المجال المناسب لهم لتكون ظروف حياتهم أفضل من حياتها. وتؤكّد قائلة: "العمل في التطريز أصبح جزءاً أساسيّاً من حياتي ولا أستطيع أن أعيش من دونه، لكنّني أحلم بظروف أفضل لأولادي".

 

وسنحت لنا الفرصة بالتحدّث إلى فتاتيها، فرح 15 سنة ومرام 12 سنة، اللتين تساعدانها بأناملهما الناعمة منذ بلوغهما 11 من العمر، فمنذ أن فتّحت فرح عينيها على الحياة وهي ترى والدتها تطرّز، لذا تعلّمت هذه الحرفة بينما كانت تتأمّل أمّها. وتريد أن تصبح مستقلّة مثل والدتها، مؤكّدة أنّ هذا المدخول يساعدها على شراء حاجياتها. نجحت فرح حديثاً في الشهادة المتوسّطة وأفصحت لنا أنّها تريد أن تصبح طبيبة نفسيّة. وتقول: "ثمّة حاجة في المخيّم إلى هذا النوع من الأطبّاء، فالسكّان هنا بحاجة إلى من يستمع إليهم". أمّا مرام فتخبرنا بأنّها تشعر بأهمّيّة ما تفعله وبالحماس والغبطة عندما تكون على وشك الانتهاء من تصميم ما. وعندما لا تطرّز، تلعب مرام كرة القدم وتؤكّد لنا أنّها تريد أن تصبح مدرّبة رياضة تحثّ الفتيات على ممارسة الرياضة.

اقرئي أيضاً: Rima El Yafi تحوّل الأماكن الاعتياديّة إلى أماكن سحريّة

 

التطريز أداة مقاومة

تعمل وداد الحاج موسى، البالغة من العمر 55 سنة، في التطريز منذ أن كانت في عمر الـ13. كانت تشاهد جاراتها يمارسن هذه الحرفة وتعلّمتها منهنّ. ثمّ شجعّها والدها على التطريز لتكون منتجة من جهة ولتحافظ على تراث وطنها من جهة أخرى. وتؤكّد قائلة: "هذه الحرفة هي بمثابة مقاومة في وجه سرقة إسرائيل هذا التراث التقليديّ، نحافظ من خلالها على هويّتنا وإرثنا الفلسطينيّ".

لم تكن الحياة عادلة تجاه وداد، فتُوفّي زوجها حين كان في الـ19 من العمر، تاركاً لها 4 طفلات تعيلهم. لكنّ عملها مع مؤسّسة "إنعاش" ساعدها على المضي قدماً في الحياة وتربية بناتها الأربع ولم تتزوّج مجدّداً. وتستذكر وداد فلسطين من خلال ما كان أبيها يخبرها عن هذا البلد الذي تتعلّق روحها به، فتشعر حتّى أنّها كانت تعيش هناك. وتشير إلى أنّ الرسالة الأولى التي توصلها إلى أولادها هي عدم نسيان فلسطين وحقّ العودة إليها.

أمّا منتهى شحرور، البالغة من العمر 63 سنة، فتعلّمت الخياطة عندما تأسّس المشغل الأوّل لمؤسّسة "إنعاش" أيّ عندما كانت في الـ15 من العمر. وتخبرنا: "كانت لديّ هواية الخياطة والتطريز، فوجدت في هذا المشغل بادرة أمل تساعدني على تطوير نفسي وفي الوقت عينه على المساعدة في إعالة عائلتي". والحافز المشجّع على ممارسة هذا العمل هو أنّه يمارَس من المنزل وفي البيئة الصغيرة التي تعيش فيها السيّدات، من دون الحاجة إلى التنقّل خارجاً. وإلى جانب عملها في التطريزالذي علّمها الصبر، لديها أعمال فنّيّة تفتخر بها تتعلّق بشكل خاصّ بوطنها فلسطين. فتتخيّل لحظة وصولها إلى هناك وتخبرنا بأنّ أوّل ما تريد فعله بعد العودة هو إعادة إعمار منزلها ورفع علم فلسطين على أرضها.

اقرئي أيضاً: أسيل الحمد: 24 يونيو تذكيرٌ للمرأة لئلا تستسلم وتسعى دائماً وراء أحلامها

العمل للصمود في وجه مصاعب الحياة والمرض

لدى زهراء غنّام، البالغة من العمر 48 سنة، 5 أولاد يعاني أحدهم التوحّد. تستيقظ زهراء عند الساعة السادسة من النوم وتنظّم وقتها بدقّة، إذ تهتمّ بمنزلها وبطفلها المريض وتعمل في الوقت عينه في التطريز لتأمين المصروف. وتستفيد من الوقت المخصّص للعمل لتخصّصه لنفسها أيضاً.

أمّا عواطف دبّور، فتعمل في التطريز منذ 40 سنة وتؤمّن حاجات عائلتها من خلال هذا العمل. وعلّمت ابنتها هذه الحرفة، فتفرّغت لها لتساعدها على تأمين مدخول المنزل لأنّ لديها 3 أولاد مرضى.

فتركت ابنتها نيفين المدرسة لتساعدها على إعالة العائلة بسبب غياب الأب المتوفّي. وتقول عواطف: "شغفت بهذه المهنة وأشعر بأنّ أمراً ينقصني إذا لا أمارسها يوميّاً". وتشجّع أولادها على العودة إلى فلسطين، وتستذكر في سياق حديثها خبز الصاج والصنّارة والصوف، التي تمثّل جميعها التراث الفلسطينيّ العريق أيضاً.

اقرئي أيضاً: السعوديّات يتولّين قيادة المستقبل

الأمل بمستقبل أفضل

أسمهان غنّام تعمل أيضاً منذ أكثر من 40 سنة في مجال التطريز، لكنّ ابنتها، على عكس ابنة عواطف، لا تريد أن تتعلّم هذه الحرفة لأنّها تريد أن تكمل تعليمها الجامعيّ. وتضيف: "أحلم أن يتعلّم أولادي وأن يعملوا في مجال تظهر من خلاله طاقاتهم". وتؤكّد أسمهان فيما تحضّر الحرّ الذي يستخدمه ابنها في فرنه الخاصّ أنّ زوجها يصطحبها في نهاية كلّ أسبوع إلى بلدة "مارون الراس" الحدوديّة لتتأمّل من بعيد قريتها الفلسطينيّة "علما".

وتخبرنا أيضاً بأنّه عند حدوث أي نوع من حوادث العمل تتشوَّه فيه بعض التصاميم، تتوجّه إلى المسؤولة عنها وتخبرها صراحةً بما حصل وتعتذر منها. فثمّة دائماً سيّدة في المخيّم تكون صلة الوصل بين السيّدات العاملات والمؤسّسة مثل فاطمة سليمان التي بدأت بالتطريز مع إنشاء الجمعيّة، إلاّ أنّها أصبحت في ما بعد تتابع الأعمال مع النساء العاملات من داخل المخيّم. أمّا اليوم، فسمر كابولي هي التي تتواصل مباشرةً مع السيّدات العاملات، فتجلب لهنّ الخيوط والأقمشة وترشدهنّ حول كيفيّة العمل.

ولسمر قصّة مميّزة للغاية. ففي صغرها، كانت تعيش كتلك السيّدات في مخيّم فلسطينيّ في بيروت. لكنّها بعدما يُتّمَت في عمر 3 سنوات إثر استشهاد والدتها في انفجار وموت والدها بعد ذلك بفترة وجيزة، اهتمّت أختها الكبيرة بها وبأخواتها. وساعدتها مؤسّسة "الصمود"، التي كانت تهتمّ بالأيتام الفلسطنيّين، على إكمال علمها، إلى أن تعرّفت على التطريز وبدأت تعمل مع جمعيّة "إنعاش". وعملت سمر في التطريز من داخل المخيّم إلى أن انتقلت إلى العمل من قلب المؤسّسة بعدما أوصت بها المسؤولة عنها آنذاك. وتعلّمت الكثير منذ ذلك الحين حتّى أصبحت صلة الوصل مع السيّدات في المخيّمات.

وبما أنّها عاشت ظروفهنّ، تفهم معاناتهنّ وحاجاتهنّ إلى العمل. وبالرغم من ظروفها الصعبة، استطاعت بناء مستقبل أفضل لنفسها. واليوم، سمر متزوّجة ولديها عائلة جميلة فضلاً عن أنّها تحثّ كلّ نساء المخيّم على تمكين فتياتهنّ لتحقيق أحلامهنّ مهما كانت ظروفهنّ قاهرة. ورأينا هذه الأحلام تلمع في أعين فرح ومرام وكلّ الأطفال الذين صادفناهم في خلال زيارتنا المخيّم. ففي ظلّ الألم والتشرّد والشدّة، يبقى الحلم بمستقبل أفضل هو سيّد الموقف.

اقرئي أيضاً: عندما يجتمع الشغف والشجاعة يكون النجاح ثالثهما

نُشِرَ هذا التحقيق للمرّة الأولى في عدد سبتمبر من العام 2018 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث