خيوط الصمود تحيك نسيج فلسطين

الإعداد: Joe Challita

أُدرجت أزياء المرأة الفلسطينيّة وتطريزها في العام 2021 ضمن القائمة التمثيليّة للتراث الثقافيّ غير المادي للبشريّة لدى اليونسكو، وتُعتبر دليلاً على أهميّتها الثقافيّة والتاريخيّة والتي تستدعي المحفاظة عليها. وتشكّل هذه الأعمال الفنيّة عنصراً أساسيّاً من التراث والهويّة الفلسطينيّة كما تقدّم انعكاساً للتقاليد والسرديات التي تحدّد هويّة الشعب الفلسطيني.


لعبت هذه الثروة الثقافيّة دوراً مهمّاً في تشكيل السرد الجماعي للفلسطينيّين، تاركةً بصمة دائمة في تاريخهم. ونلاحظ أنّ هذه الملابس والأعمال الفنّيّة المطرّزة تبرز بقوّة في الوقت الحاضر، لا سيّما من حيث تجديد الارتباط العميق والجذور التاريخيّة التي يحافظ عليها الفلسطينيون عبر الأجيال مع أرض أجدادهم.

وفي هذا السياق، شرعت وداد قعوار، الناشطة الثقافية الملقّبة بـ"عرّابة الزيّ الفلسطينيّ" بمهمّة تتمثّل في المحافظة على الثقافة الفلسطينيّة الغنيّة من خلال مركز "طراز" الذي أسّسته ليشكّل معقلاً للحفاظ على الأزياء والتطريز الفلسطيني. ويتّخذ هذا المركز من الأردن مقرّاً له وتتمثّل مهمّته في الحفاظ على الروايات العريقة المنسوجة في التطريز المتقن، ممّا يضمن استمرار الإرث الثقافي الفلسطيني. وتأتي قعوار في الأصل من طولكرم في الضفة الغربية، وكان انتقال عائلتها إلى برمانا في لبنان، وأخيراً إلى بيت لحم في العام 1941، بمثابة بداية استكشافها الثقافي. فقد تعمّقت في تفاصيل الأزياء التقليدية والتطريز، بالإضافة إلى النسيج الاجتماعي الغنّي لحياة القرية، وبخاصّة بين النساء. فأذهلها ثوب بيت لحم الرائع المعروف بثوب "الملك"، بالإضافة إلى ثوب رام الله الراقي والمعقّد الذي يتميّز بتدرّجات اللون الأحمر وكثرة الأنماط فيه، ممّا دفعها إلى البدء في رحلتها إلى جمع الملابس التقليديّة.

وداد قعوار في مركز "طراز"

واليوم، يُعدّ مركز "طراز" متحفاً فريداً وتفاعلياً يعرض التاريخ الاجتماعي بطريقة نادرة وغامرة بصرياً والمتمثّل بالمنسوجات والقصص التي ترويها النساء بتطريزهنّ اليدويّ. وكانت مجموعة وداد قعوار التي تمثّل أرشيفاً هائلاً لتراث الأزياء المشرقيّة، نتيجة لأكثر من نصف قرن من التفاني والتنظيم والرؤية المستقبليّة.

وتتميّز كلّ منطقة داخل فلسطين بألوانها النابضة بالحياة وتصاميمها المعقّدة وأنماطها الفريدة وأسلوبها الاستثنائي في الأزياء، ممّا يعكس التنوّع والاختلافات الإقليمية داخل الثقافة الفلسطينيّة. وغالباً ما تتميّز تلك الأزياء بزخارف وأنماط مطرّزة يدوياً تحمل معاني رمزيّة وتمثّل جوانب من الحياة الفلسطينيّة، مثل الطبيعة والخصوبة والمكانة الاجتماعية. وفي مقابلة مع ليلى، مديرة الاتصالات في مركز "طراز" وحفيدة وداد، قالت لنا: "لدى النظر إلى معظم الأثواب التقليديّة الفلسطينيّة، نلاحظ وجود زخرفة على الصدر وتطريز على الجوانب والأكمام. وتكشف الزخرفة على الصدر عن المنطقة التي تنتمي إليها المرأة، وأحياناً عن قرية محدّدة. كما كان لكلّ منطقة زخرفتها الخاصّة للصدر وبرز التطريز بشكل أكبر على بعض الأثواب، كما في ثوب منطقة الخليل وصحراء النقب."

مجموعة في متحف "طراز"

وبالمقابل، اقتصر التطريز عند الحدّ الأدنى في بعض المناطق الأخرى في فلسطين. فتضيف ليلى: "اختلفت الأثواب في منطقة الجليل الشمالي عن مناطق أخرى في فلسطين. فكانت تتميّز بالتطريز المتناثر أو حتّى من دون أيّ تطريز على الإطلاق. إذ كانت نساء الجليل يعملنَ مع الرجال في الحقول. وبالتالي، اعتُبر التطريز مضيعة للوقت، ومن هنا ظهر المثل القائل " قلّة الشغل تعلّم التطريز."

وتناقلت تقنيّات التطريز عبر الأجيال من خلال الأثواب الفلسطينيّة، وغالباً ما شملت الغرزة المصلّبة وغرزة المدّ اللتين تتطلّبان مهارة ودقّة كبيرتين. وتحمل الأنماط والرموز أهمية تاريخية وثقافية كبيرة.

وهكذا تتحوّل الروايات المصوّرة في التطريز الفلسطينيّ إلى أعمال فنيّة ذات معنى. فيعكس التطريز مواضيع مختلفة حول نضالات الشعب الفلسطيني وتطلعاته وصموده ويشكّل لغة بصريّة تنقل قصص الكفاح والهوية والتضامن. وقد استخدمت المرأة الفلسطينيّة التطريز كوسيلة للحفاظ على تراثها الثقافي والتعبير عن تجاربها الجماعية. لكن على مرّ السنين، شهد التطريز وأساليبه تحوّلات تعكس التحديات والتغيرات التي اختبرتها البلاد خلال كلّ عصر.

وتضيف ليلى: "تميّز التطريز من منطقة يافا بالدقّة والتعقيد. فكانت الأنماط مفصّلة وبرز الثوب بطابع أنيق. وكانت المنطقة موطناً للبرتقال الفريد المعروف باسم برتقال يافا. وقبل عام 1948، عملت الكثير من العائلات الفلسطينية في منطقة يافا في مجال البرتقال فإمّا امتلكت بساتين البرتفال أو زرعتها أو أدارتها أو حصدتها. وفي بعض السنوات التي سبقت عام 1939، زُرع ما يصل إلى 300 ألف دونم بالحمضيات وصُدّر 15 مليون صندوق من البرتقال. وأصبح شكل زهر البرتقال شائعًا في التطريز المحلي. وأشهر الملابس في هذه المنطقة هو ثوب بيت دجن، القرية القريبة من يافا والتي هُجّرت عام 1948. وتميّزت أثواب القرية بالتطريز على منطقة الصدر والأكمام والجوانب."

ومن ناحية أخرى، تطوّر التطريز على مرّ السنين، فتقول ليلى: "بعد العام 1987، ظهر ثوب جديد بدون التطريز أو الأنماط تقليديّة، بل كان مطرزاً برموز الأعلام الفلسطينية مثلاً وخريطة فلسطين وأغصان الزيتون. وتميّزت الأثواب بألوان العلم الفلسطيني الأحمر والأخضر والأبيض والأسود. فكان يظهر العلم نفسه على الصدر في بعض الأحيان."

وتتمثّل مهمة "طراز" في الاحتفاء بأزياء المرأة الفلسطينيّة التقليديّة والتطريز الذي كان يزيّنها من خلال المعارض والعروض والفعاليات الثقافية، تكريماً لهذا التراث الغنيّ. ولا تقوم هذه المبادرات على تعزيز التراث الفلسطينيّ فحسب، بل توفّر أيضاً فرصاً للنساء بسبب الطلب على التطريز الفلسطينيّ ضمن التصاميم الحديثة، مما يمكّن السيّدات مالياً ويعزّز سبل معيشتهنّ.

وقد أصبحت القصص المطرّزة المليئة بالمشاعر رمزاً قوياً للصمود والكفاح والاستمراريّة الثقافيّة في مواجهة المِحَن. ومن خلال الحفاظ على أزيائهم وتطريزهم التقليديّ، يؤكّد الفلسطينيّون على هويتهم وتراثهم والحفاظ على ثقافتهم كما يظهر من خلال اعتراف اليونسكو بفنّ التطريز.

وبواسطة الإبرة والخيط، صنعت النساء أكثر من مجرّد أشكال تطريز رائعة، إذ نسجنَ خيوط التاريخ لعكس ماضي فلسطين الغنيّ وقصّتها، فيما حافظنَ على هذا الإرث العريق الذي تتناقله الأجيال.

فإنّ عملهنّ الدقيق والمعقّد هذا هو بمثابة شهادة دائمة على التراث المتوارث من عصر إلى آخر والذي يزيّن النسيج الحاليّ. إذ يتردّد صدى صمود الماضي وإبداعه اليوم، من أجل غد أفضل. وكما تخبر ليلى: "تبرز شجرة السرو (شجرة الحياة) بين الأشكال الشائعة المستخدمة في التطريز الفلسطيني، وتشكّل رمزاً للخلود والعمر الطويل"، ولعلّ هذه الرمزية متجذّرة بعمق في قلب كلّ فلسطينيّ وفلسطينيّة. 

اقرئي ايضًا: The Timeless Allure of Iconic Casinos

 

 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث