1935 On the cover of Al Aroussa magazine September
الإعداد: Joe Challita
في ذروة عشرينات القرن الماضي المتألّقة في القاهرة، حيث ازدهرت الحياة الليلية وامتزج البريق والأناقة مع روح الابتكار الفني، بزغ نجم لامع أضاء سماء الفنّ المصري:
بديعة مصابني
اعتلت بديعة مصابني عرش الترفيه والمسرح، معلنةً عن فجرٍ جديد للفنون والرقص الشرقي. كانت مساهماتها أشبه بلوحة زاهية تُجسد فنون العرض والأداء غير المسبوقة، التي تذكّرنا بعظمة صالات الترفيه في باريس ولندن. إنّ تأثير بديعة ;كان هائلا، فقد كانت صانعة نجوم، و راعت مواهب ألمع نجوم مصر. إذ لا يقتصر إرثها على نجاحها الشخصي فحسب، بل كانت رائدة في صياغة هوية الرقص الشرقي، ويجسّد ذلك بوضوح صالة الترفيه الشهيرة التي أسّستها، "كازينو بديعة".
الصباح 20 يوليو 1934
الرقص فنّ قديم قدم الكون نفسه، يتجاوز الحواجز ويستحضر أعمق المشاعر والأحاسيس ويُعتبر أحد أسمى أشكال التعبير عن الحب والتفاني والشغف. يلاحظ Andrew Hammond في كتابه Pop Culture Arab World إجماع ممارسي هذا الفنّ على أن الرقص الشرقي متأصّل في الثقافة المصرية، حيث يذكر أن "المؤرّخ اليوناني Herodotus أشار إلى قدرة المصريين المذهلة على خلق المتعة العفوية لأنفسهم من خلال الغناء والتصفيق والرقص في قوارب على النيل خلال الكثير من المهرجانات. ومن هذا التقليد المبهج العظيم والقديم، نشأ الرقص الشرقي".
من العصور القديمة إلى قصور العصر العبّاسي، كانت الراقصات في الحريم، والمعروفات باسم "العوالم"، يتدرّبن على الغناء والرقص. استمرّ هذا التقليد مع الخلافة العبّاسية في بغداد وخلال العصر الأمويّ في دمشق. ووفقاً لمجلة "الكواكب" عام 1956، اقتصر الرقص لقرون على الحريم والقصور الملكية. لكن، في السنوات اللاحقة، بدأ الرقص بالظهور في الشوارع والنوادي، وقد أدّته راقصات يُعرفنَ بـ "الغوازي".
ومع دخول مصر تحت الانتداب الفرنسي بقيادة Napoleon Bonaparte في القرن الثامن عشر، بدأ المشهد الثقافي في القاهرة بالتحوّل، وبدأت المقاهي والحانات العامة بالظهور، لتخدم في البداية المغتربين والجنود الأجانب. فأٌتيحت الفرصة للراقصات من خلال هذه الصالات الترفيهية للازدهار وتقديم العروض. لكن في عشرينات القرن الماضي الصاخبة، دفعت الفنّانة الشاملة بديعة مصابني، ذات الأصول الشامية، بالرقص الشرقي إلى عصرٍ جديد، لتغيّر مسار هذا الفنّ الخالد إلى الأبد.
امتدّت رحلة بديعة مصابني، التي تنحدر أصلاً من بيروت، عبر القارّات، من جنوب القارة الأميركية إلى شمالها. وفي مقابلة مع الصحفية ليلى رستم عام 1966، تكلّمت عن جذورها قائلة: "والدي لبنانيّ من بيروت، ووالدتي من دمشق". لم يكن طريق بديعة نحو النجاح سهلاً على الإطلاق؛ بل كان مليئاً بالتحديات والصعوبات. فقد وُلدت عام 1892 في دمشق، وعاشت في بيروت ثم انتقلت في سنّ الثامنة، وسط صراعات عائلية وتجربة مؤلمة من سوء المعاملة دفعت الأسرة إلى الخروج من مجتمعها، ما أدّى بها إلى الاستقرار في الأرجنتين.
خلال فترة شبابها، أظهرت بديعة موهبة ملحوظة في الغناء والرقص، وحظيت بإشادة كبيرة في المدرسة. انغمست في النسيج الثقافي النابض لأميركا الجنوبية وتعرّفت على أنواع مختلفة من الموسيقى والرقص اللاتيني، مما أثرّ تأثيراً عميقاً في تطوّرها الفنّي. وبعد عودتها إلى بيروت، واصلت بديعة صقل مهاراتها، حيث أسرت الجماهير كـمغنية في صالات الترفيه. وخلال هذه الفترة، تدخّل القدر، حيث التقت مرة أخرى )بعد المرّة الأولى في مصر( مع المخرج والممثل الكوميدي المصري الشهير نجيب الريحاني، وذلك خلال أحد عروضه في بيروت.
بعد زواجهما في سبتمبر 1924، توجّه الزوجان إلى الأرجنتين لقضاء شهر العسل. لكنّ لقائهما بالجالية المشرقية النابضة بالحياة خلال إقامتهما، دفعهما إلى تمديد زيارتهما. وعلى مدار عام، جابا أنحاء أميركا الجنوبية، وأسرا الجمهور بعروضهما التي حقّقت نجاحاً باهراً. ثمّ عند انتقالهما إلى مصر، كان الزوجان متشوّقين للتعاون والإسهام في المشهد الترفيهي النابض في القاهرة. اشتهر نجيب بأنه رائد الأسلوب الفرنسي-العربي، حيث أعاد تقديم المسرحيات الفرنسية ضمن تمثيليات كوميدية قصيرة تجمع بين اللغتين العربية والفرنسية. وقد استحوذت عروض بديعة الآسرة، التي تمزج بين أنماط الرقص المختلفة والرقص الشرقي، على قلوب الجماهير. فأثبت شراكتها الفنية مع نجيب الريحاني دورهما الكبير في تعزيز نموّهما الفني. إلّا أنّ زواجهما كان قصير الأجل إذ انفصلا في العام 1926. وبحسب مجلة "الكواكب" المصرية، عدد مارس 1966، برزت بديعة كرائدة في عالم الرقص الشرقي بعد انفصالها عن نجيب ابتداءً من عام 1928. والجدير بالذكر أنها أسست صالة الترفيه الخاصة بها، "كازينو بديعة"، في شارع عماد الدين الذي يُعتبر "برودواي" القاهرة، ما منحها لقب "ملكة عماد الدين". وهناك تحوّلت بديعة إلى شخصيّة محورية، حيث أحدثت ثورة في مشهد الترفيه في القاهرة وابتكرت تفسيراً حديثاً للرقص الشرقي.
قدّم كازينو بديعة عروضاً متنوعة تشمل الـVaudeville والموسيقى الحية مع فرقة أوركسترا كاملة والمونولوجات والرقص الشرقي الممزوج بأنماط غربية )وفقاً لمجلة الكواكب عام 1966، كان المزج سابقاً يقتصر على الموسيقى والرقص التركيّ فقط(، بالإضافة إلى عروض العزف على الساجات. لم تقتصر صالة ترفيه بديعة على تسلية نخبة القاهرة مثل الملك فاروق وكبار الشخصيات الأجنبية، بل كان أيضاً أول أكاديمية للرقص في مصر، ممّا رسّخ إرث بديعة كرائدة في مجال الرقص والترفيه. فقد اشتهرت بأنها رفعت مستوى الرقص الشرقي إلى آفاق جديدة، حيث ساعدت في جعله أكثر انسيابية من خلال التركيز أكثر على حركة الذراعين ورفعهما أعلى الرأس على عكس الطريقة التقليدية التي كانت تقتصر على مجال حركة محدود.
تقليدياً، كانت الراقصات يرتجلنَ حركاتهنّ على المسرح. لكن كازينو بديعة قدّم لأول مرة عروضاً راقصة مصمّمة مسبقاً مع إستخدام أزياء مبهرة مستوردة من أوروبا، مع الحرص على أن يتمكّن الجمهور الجالس في المقاعد الخلفية من رؤية العروض بشكل كامل من جميع الاتجاهات.
اشتهرت بديعة أيضاً بمزج الموسيقى العربية بالأنواع الموسيقية الأجنبية، حيث كانت تقول: " لا تُرضي الموسيقى العربية وحدها الجماهير، وعندما مزجت بالموسيقى الأجنبية أصبح الأمر مذهلاً". أتاح هذا المزج مجالاً أوسع للتعبير الفني وقدّم خيارات موسيقية متنوّعة تتناسب مع المواقف المختلفة.
وفي مقابلتها مع ليلى رستم، سُئلت بديعة عن سبب تسميتها "عميدة الرقص الشرقي". فأجابت: "لأنّ أبرز نجمات الرقص تخرّجنَ من أكاديميتي".
وفي الواقع، تحوّل كازينو بديعة إلى أول أكاديمية للرقص في القاهرة، حيث صقلت مهارات فنّانين أصبحوا فيما بعد من أعظم الراقصين والموسيقيين في القرن العشرين. ومن بين هذه المواهب المرموقة الراقصتان الشهيرتان تحية كاريوكا وسامية جمال، إلى جانب المغني السوري فريد الأطرش الذي عزف على العود.
عام 1929، عادت بديعة للانضمام إلى فرقة زوجها السابق وشاركت في ستة عروض مسرحية ناجحة للغاية. دفعها هذا النجاح إلى توسيع مشاريعها، ممّا أدى إلى افتتاح صالتَي ترفيه إضافيتين في الجيزة عامَي 1930 و1931. لكن بحلول عام 1935، قرّرت بديعة الابتعاد موقتاً عن إدارة نواديها لتتفرّغ للتمثيل. وكلّفت ابن أخيها بمهمة الإشراف على منشآتها، حيث خاضت غمار إنتاج الأفلام في عام 1936 مع فيلمها الأول "ملكة المسارح". للأسف، لم يلقَ الفيلم استحسان الجمهور، ممّا أدى إلى خسائر مالية كبيرة لبديعة. وعند عودتها إلى أعمالها، واجهت صدمة مدمّرة - فقد قام ابن أخيها، الذي منحته توكيلاً رسمياً، ببيع نادٍ لها بدون علمها. تسبّبت هذه الخيانة، إلى جانب النكسات المالية والضرائب المتراكمة، بإفلاسها. ومع استنفاد مواردها وملاحقة الحكومة لها بسبب الضرائب غير المدفوعة، اتخذت بديعة قراراً صعباً بمغادرة مصر والعودة إلى لبنان عام 1947.
اعلان فيلم ملكة المسارح
بحثاً عن الهدوء بعيداً عن الأضواء، شرعت بديعة في فصل جديد من حياتها في منطقة زحلة الريفية. هناك، اشترت متجراً في مزرعة مخصّصاً لبيع منتجات الألبان. وشكّلت هذه الخطوة نهاية مسيرة مهنية حافلة امتدّت لأكثر من 37 عاماً. وعاشت بديعة بقية أيامها في عزلة نسبية، ثمّ توفيت عن عمر يناهز 82 عاماً في العام 1974.
تظل بديعة مصابني، ملكة المسارح، منارة إلهام في تاريخ الرقص. كأيقونة كاسرة للحواجز، بنت جسوراً بين القارّات من خلال مزجها الفريد من الموسيقى والرقص، تاركةً بصمة دائمة على فنّ الرقص الشرقي. وتبقى روحها الرائدة وأسلوبها المبتكر مصدر إلهام لسنوات قادمة.