عن التعامل مع الوحدة

تتجلى الوحدة بعدة أشكال وما من إنسان لم يصادفها على الأقل مرّة في حياته. لكني سأتحدث اليوم عن مرحلتين إتّسمتا بالوحدة الشديدة لديّ، خلال المراهقة وأثناء سفري للعمل في إحدى دول الخليج.

إقرئي أيضاً: عن أحلام اليقظة ، ثمن الدراسة في الخليج:أمـهات يشاركــن همومهنّ ، عرض أزياء Alberta Ferretti لربيع وصيف 2017 ، معرض صور Constance Kratsa: مدن الماضي، الحاضر والمستقبل

كنت طفلةً حالمة، غير لعوبة، ولا اختلط كثيراً مع الأولاد الآخرين. فأمسيت مراهقةً مهمّشة، وخاصّة في المدرسة، حيث رأيت نفسي أنتمي إلى عالم آخر، بعيداً عن المراهقين الآخرين الذين يصادقون بعضهم البعض ويخرجون معاً ويقومون بنشاطات تعتبر cool في الثانوية. وإلى جانب صديقة من هنا أو من هناك، كنت وحيدةً معظم الوقت. وحيدةً مع أفكاري، وحيدةً مع الكتب، في مكتبة المدرسة التي لازمتها طويلاً، وحتى وحيدةً في البيت، حيث (مثل كل مراهقة) شعرت أن لا أحد يفهمني.

فأنغلقت على نفسي أكثر فأكثر، ووجدت ملجأً في الكتب التاريخية والروايات الغرامية التي كانت، على حسب قول أمي، تفسد عقلي. لكن في الحقيقة كانت تلك الطريقة الوحيدة لخوض مرحلة المراهقة، ولم أعرف غيرها للتعامل مع الوحدة، حتى بلغت سنّ السابعة عشر وبدأت أخرج من قوقعتي تدريجياً للتحدث مع الآخرين والانخراط في "مجتمع" الثانوية وبعدها المرحلة الجامعية.

بعد 11 عامٍ، في سنّ ال28، إنتقلت للعمل والعيش في قطر. كانت نقلة نوعية، بحيث تركت بلدي وأهلي وأصدقائي للبدء من جديد في أرض غريبة لا أعرف فيها أحد باستثناء إحدى أقاربي. لا شكّ في أنني كنت محظوظةً برفقة زميلات يقطنّ معي في نفس المنزل، غير أن بعدي عن كل ما هو مألوف أصبح مضنياً بعد أن مرّت فترة الحماس الأولية. فلم يكن بإمكاني مشاركة أوقات الفرح والحزن سوى عبر الهاتف أو مواقع التواصل الإجتماعي، وغالباً ما كنت أخرج لوحدي، على الرغم من وجود الزميلات. وفي غياب الأمور التي كنت أستعين بها للتخفيف من الضغط النفسي، كالقيادة والرقص، أمسيت أتوجه نحو الطعام لملأ الفراغ. ولسبب مجهول، لم أعد ألجأ للقراءة أو أجد فيها راحتي. فتجلّى الشعور بالوحدة والعزلة ولم أعلم كيف أتعامل معه سوى بالطبخ والأكل وتخدير أفكاري وحواسي من خلال مشاهدة المسلسلات التلفزيونية.  

وبعد سنة، إنتقلت للعيش بمفردي بعد أن تم توظيفي في شركة جديدة، ولا شكّ في أن تلك الحياة مختلفة كلياً عما تصورته. فقبل السفر، كنت أشتكي من منزلنا المزدحم في بيروت ومن غياب الخصوصية، متمنيةً أن يكون لي بيتي الخاص، حيث أتصرف كيفما أشاء... فتحققت أمنيتي، ويا ليتها لم تتحقق. إكتشفت معنى الوحدة والفراغ الحقيقي، وتمنيت في كل لحظة لو أعود لمنزل أهلي، فأستمتع برفقة العائلة التي ياما كنت أتجنبها.

بدّلت مسكني أربع مرات خلال ثلاث سنوات، وفي كل مرّة انتقل فيها إلى بيت جديد، كنت أبحث عن طرق لمحاربة الوحدة، من إجاد أصدقاء جدد، إلى تنظيم وقتي واختلاق هوايات ونشاطات جديدة. وفي آخر انتقال، إكتشفت متعة التمارين الرياضية. أعترف أنني لم أمارس يوماً الرياضة بشكل جديّ، ولكن هذه المرّة، رأيت جميع فوائده. فتسجلت في نادٍ رياضيّ وأصبحت أقصده يومياً بعد دوام العمل لساعة او ساعة ونصف. فساعدتني الرياضة في تفريغ طاقتي المشحونة وجميع المشاعر السلبية الناتجة عن الوحدة.

لقنتني الوحدة دروساً ثمينة خلال تلك السنوات، وأهمها أن أحوّل كل الطاقة السلبية نحو نشاطات تنفعني، مثل التمارين الرياضية والهوايات الإجتماعية، عوضاً عن الإنجرار نحو‎ التدمير الذاتي الذي يخلفه الحزن الإستياء. تعلمت الكثير ونضجت، فكما يقول المثل، "إن المحن التي لا تقتلك، تجعلك أقوى".

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث