يناير في باريس: تاريخ وإرث الهوت كوتور

Model Luciana Farah - Makeup by Tony Dib at Elie Saab Fashion Show

الإعداد: Joe Challita

تأسست نقابة مصمّمي الأزياء الراقية الباريسية (Chambre Syndicale de la Couture Parisienne) عام 1868، وهي جمعية خاصّة لمصمّمي الأزياء الباريسيين أُنشئت لمكافحة التزوير والإشراف على أنظمة العمل وإدارة الضرائب في صناعة الموضة. وكان المصمّم الفرنسي Charles Frederick Worth (1825-1895) الذي غالباً ما يُعتبر الأب المؤسس للأزياء الراقية، وراء تأسيسها. لقد أحدث Worth ثورة في عالم الموضة من خلال تأسيس دار Worth في العام 1858 في باريس، والتي تُعتبر على نطاق واسع مهد صناعة الأزياء الراقية. كان أوّل من ابتكر مفهوم عرض التصاميم على عارضات أزياء في صالوناته أو مشغله، ودعا الزبونات لاختيار القطع التي يفضّلنها لتُفصَّل بعد ذلك حسب مقاساتهنّ بالضبط. كذلك، كان Worth رائداً في تقديم المجموعات الموسمية مرّتين في السنة، ممهّداً الطريق بذلك لما تطوّر فأصبح يُعرف الآن بأسابيع الموضة الحديثة. بفضل نهجه ورؤيته المبتكرة، أعاد Worth تعريف تصميم الأزياء وأرسى الإرث الدائم للأزياء الراقية. في العام 1945، أصبح مصطلح "الأزياء الراقية" عبارة محمية قانونياً حدّدتها غرفة التجارة في باريس ويشرف عليها اتحاد الأزياء الراقية والموضة (Fédération de la Haute Couture et de la Mode). هذه الهيئة الحصرية، تحت رقابة وزارة الصناعة، مسؤولة عن تحديد دور الأزياء المؤهلة لاستخدام هذا المصطلح. ولاستيفاء المعايير الصارمة، يجب توافر مجموعة مختارة من المتطلّبات، مثل أن يكون لدى دار الأزياء مشغل يعمل فيه ما لا يقلّ عن 15 موظفاً بدوام كامل و20 عاملاً فنياً، وأن تنتج ملابس مخصّصة للعملاء الخاصّين مع تجربة قياس واحدة أو أكثر، بالإضافة إلى تقديم مجموعة لا تقلّ عن 50 تصميماً أصلياً في كلّ موسم خلال عروض الأزياء الراقية في شهرَي يناير ويوليو.

Empress Eugenie wearing a Worth couture gown

وفي عام1930 ، تم تأسيس L’École de la Chambre Syndicale de la Couture وهي مدرسة تابعة لنقابة مصمّمي الأزياء الراقية الباريسية. تساعد المدرسة في استقدام مصمّمين جدد لمساعدة دور الأزياء الراقية التي لا تزال موجودة حتى يومنا هذا. ويشير مصطلح "الأزياء الراقية" إلى المستوى والجودة أو عملية صناعة الملابس بحرفية، والتي تجري عادةً على أيدي أشخاص متمرّسين يُشار إليهم باسم Les Petites Mains، باستخدام أفخم المنسوجات والدانتيل المتاحة. تُصنع الملابس على الطلب بعد أخذ مقاسات السيّدة المعنيّة وتستغرق عملية إنجازها عدّة أشهُر ولا سيما إذا كانت مطرّزة أو مزخرفة يدوياً بالخرز. وتُقام عروض الأزياء الراقية مرّتين في السنة، في يناير لموسم الربيع والصيف، وفي أوائل يوليو لموسم الخريف والشتاء.

أصبحت باريس المحور الرئيس لعالم الموضة ويعود السبب في ذلك إلى أنّ دور الأزياء الكبرى قد تأسّست في العاصمة الفرنسيّة على غرار Christian Dior وCHANEL وBalenciaga وSchiaparelli وSaint Laurent وGivenchy. وقد كانت من أوائل دور الأزياء الراقية التي ظهرت في مشهد الموضة الباريسي النابض بالحياة، كما أنّها حملت أفكار Charles Frederick Worth في تصميم الأزياء الراقية وعروض الأزياء وتنظيم الموضة الذي نعرفه اليوم. ولهذا السبب تُقام عروض الأزياء الراقية دائماً في باريس لأنّها مهد الأزياء الراقية.

Schiaparelli F24

وبينما كانت هذه المدينة مركزاً لعالم الموضة النخبوي، شكّلت أيضاً مسرحاً تركت فيه مواهب عالمية بصماتها

التي لا تُمحى. ومن بين هؤلاء الروّاد، المصمّم اللبناني Robert Abi Nader، وهو أوّل وأصغر مصمّم عربي يتخرّج من مدرسة الأزياء المرموقة التابعة لنقابة مصمّمي الأزياء الراقية في العام 1985. وسرعان ما اكتشف Yves Saint Laurent مواهب Abi Nader الذي اختاره على الفور للحصول على تدريب في دار الأزياء الخاصة به، وكانت تجربة مميزة تركت بصمة لا تمحى لدى المصمّم اللبنانيّ. وفي وقت لاحق، صقل Abi Nader مهاراته في علامات مرموقة أخرى مثل Claude Montana و Christian Dior. وكان أوّل عرض له في باريس في Carroussel du Louvre عام 1997 بمثابة لحظة تاريخية ترمز إلى إدماج الإبداع العربي في عالم الأزياء الراقية الفرنسية المرموق.

Lebanese Model Luciana Farah In Robert Abi Nader 1996

ومن ناحية أخرى، أصبح المبدع اللبناني الرائد Elie Saab، أوّل مصمّم من الشرق الأوسط يُدعى للانضمام إلى نقابة مصمّمي الأزياء الراقية المرموقة في باريس، حيث عرض أول مجموعة أزياء راقية له في يوليو 2003 في باريس. وقد ساهم Saab وAbi Nader معاً في تعزيز الاعتراف بأسلوب الشرق الأوسط المتميّز في تصميم الأزياء الراقية، والذي اشتهر بتطريزاته المعقّدة وأناقته اللافتة. ومع اكتساب المصمّمين اللبنانيين زخماً وبروزهم خلال العصر الذهبي للبنان في حقبة التسعينات التي ازدهرت فيها الفنون والأزياء، برزت ظاهرة موازية هي عارضات الأزياء اللبنانيات. ومن أبرزهنّ كانت المذهلة Luciana Farah التي بدأت مسيرتها المهنية كعارضة أزياء في بيروت في سنّ الـ14 عاماً وأصبحت وجهاً مميزاً في تلك الحقبة، حيث عملت مع كبار المصمّمين مثل Elie SaabوRobert Abi Nader، بالإضافة إلى شخصيات بارزة أخرى في صناعة الأزياء. وقد تألّقت Luciana بإطلالتها الساحرة على أغلفة كافة المجلّات اللبنانية الكبرى تقريباً، ممّا عزّز مكانتها كأيقونة للموضة اللبنانية في التسعينات.

Model Luciana Farah in Robert Abi Nader -

لم يكتفِ التأثير اللبناني بمكانة المنطقة في باريس فحسب، بل مهّد الطريق أمام المصمّمين العرب في المستقبل. فقد انضمّ المصمّم السعودي Mohammed Ashi مؤخراً إلى نقابة مصمّمي الأزياء الراقية في باريس، ليصبح أوّل مصمّم خليجي يحجز مكاناً في هذه المؤسّسة العريقة. واليوم، يختار نجوم هوليوود المصمّمين العرب لابداعاتهم وتهيمن ابتكارات المصمّمين اللبنانيين بشكل خاصّ على السجادة الحمراء.

توفي Charles Frederick Worth، الأب المؤسّس للأزياء الراقية، في 10 مارس 1895، تاركاً أعماله لولدَيه. ولا تزال مساهماته الرائدة تلهم المصمّمين الطموحين حتى يومنا هذا، ممّا يرسّخ إرثه الدائم في صناعة الأزياء. كذلك، اكتسب مصمّمو الشرق الأوسط شهرة عالمية وتصدّروا العناوين في عالم الأزياء الراقية. وتحظى أعمالهم بالتقدير على مستوى العالم، حيث يتم حفظ إرثهم في المتاحف والمعارض الفنّية المرموقة، ممّا يبرز تأثيرهم الثقافي والفنّي على نطاق واسع. ويستمرّ مستقبل الأزياء الراقية في الشرق الأوسط في الازدهار، ويتجلّى ذلك في عرض Elie Saab المذهل الذي أقيم مؤخراً في المملكة العربية السعودية بمناسبة الذكرى الـ45 لتأسيسه. شكّل هذا الحدث الضخم علامة فارقة حقاً، حيث استقطب جمهوراً من المشاهير ضمّ نجوم هوليوود والعالم. ولم يقتصر الأمر على الاحتفاء بإرث المصمّم العريق فحسب، بل سلّط الضوء أيضاً على المكانة المتنامية للمنطقة على ساحة الموضة العالمية. 

​أقرأي أيضاً: عن الكوميديا الساخرة لويليام كلاين، التي تستكشف ترف عالم الموضة

 

 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث