يا ريم وادي ثقيف...
...لطيف جسمك لطيف
ما شفت أنا لك وصيف...
...في الناس شكلك غريب
عندما صدح صوت الفنّانة نجاح سلام الجبلي بهذه الكلمات قبل أكثر من ستّين عاماً في إذاعة صوت العرب للمرّة الأولى، سجّلت هذه اللحظة سوابق عدّة. ولم أكن أعلم بها حتّى بدأت البحث عن معنى الجمال لكتابة هذا المقال! ففي تلك اللحظة العابرة، أذيعت الأغنية السعوديّة الأولى على إذاعة مصريّة وعربيّة، بأوّل صوت نسائي عربي يغنّي اللهجة الخليجيّة والسعوديّة، من القصيدة التي تمّ تلحينها للأمير الشاعر عبد الله الفيصل وأوّل لحن للأب الروحي للأغنية السعوديّة الفنّان طارق عبد الحكيم... إنّها بالفعل لحظة تاريخ ثقافي لا بدّ من توثيقها. وبهذا التناغم الجميل بين الإذاعة والمطربة والشاعر والملحّن، خرجت للأثير أغنية من أجمل وأشهر أغاني التراث السعودي والعربي. أمّا ما زاد الأغنية جمالاً، فهو مكانها. إذاً أين هو وادي ثقيف؟ ومن هي هذه الريم؟ وكيف ألهمت الشاعر؟ وما هي قصّة القصيدة؟ في الحقيقة لا تهمّ التفاصيل كثيراً، لأنّ الجمال إحساس لا يجب تفسيره، له أوجه كالقمر وأبعاد متباينة ومعانٍ كثيرة، كلّها صحيحة وجلّها حقيقة... ومن هذا المنطلق، لنسرح بخيالنا في جمال ريم وادي ثقيف .
وادي ثقيف يقع جنوب مدينة الطائف، وتسكنه منذ ما قبل ظهور الإسلام وحتى اليوم قبيلة ثقيف العربية من قبائل هوازن. والطائف هي مصيف الشاعر الأمير عبد الله الفيصل ومسقط رأس الملحن طارق عبد الحكيم، وصفها المؤرّخ السعودي الأستاذ محمد صادق دياب كالتالي «كانت مدينة الطائف تتوسّد أحلامنا، فتنأى كلّما اقتربنا منها كفتاة تمارس البغدَدة على عشاقها، والطريق إليها يتلوى كخصر راقصة أشعلتها مواجع الطبول».
هكذا أصبحت وردة الطائف أفضل من أصلها
بهذه المعادلة الجماليّة، لنستذكر عبق المكان وعبير الزمان ونستحضر محبوبة الشاعر. في خيالي، يعود سبب خلود هذه الأغنية عبر الزمان إلى شذى عطر هذه الريم. فلطالما ارتبطت الذكريات بحاسة الشمّ، ومن المؤكّد أنّ عطر ريم وادي ثقيف هو الورد الطائفي. وتقول الدكتورة لطيفة العدواني، مشرف مركز تاريخ الطائف بجامعة الطائف، أنّ الورد هو قلب هويّة الطائف الجماليّة. وتضيف أنّ ثمّة أسطورة تحكي أنّه قبل خمسة قرون أرسل أحد السلاطين العثمانيّين لأحد أعيان مكّة المكرّمة بذوراً من الورد الدمشقي ليزرع في الحجاز، فزرعه في جبال الهدا. وبفضل الطبيعة الجبليّة المناسبة وجودة الأجواء والتربة والندى المتراكم فجراً على الورود، أصبحت وردة الطائف أفضل من أصلها، ذات ثلاثين بتلة مشبّعة بتركيز غريب بالمواد العطريّة وغير معروف سببه حتّى الآن. فأصبح زيتها وماؤها من أثمن العطور، حتّى بات يستخدم عالميّاً في أرقي دور العطور مثل Dior وGivenchy وغيرها. أمّا القطفة الأولى، فهي هدية الملوك. إذ يغسل الملك بمائها الكعبة الشريفة، ويدهن بزيتها الركن اليماني في الحرم المكي الشريف ويتعطّر به الحرم النبوي الشريف.
رائحة قويّة ومتميّزة
تعرف الطائف بمدينة الورود، وأوّل ذكر عالمي لوردها المميّز كان من توثيق الرحالة السويسري Johann Ludwig Burckhardt الذي زار الطائف عام 1814م، ثمّ توالى ذكرها بعد ذلك في كتب الرحلات. وعلى مساحة 2.5 مليون متر مربع، ثمّة 2.5 مليون شجيرة في أكثر من 900 مزرعة تنتج ما يفوق 300 مليون وردة كلّ ربيع. ويُؤخذ محصول الحصاد إلى مصانع ويُحوّل إلى ماء الورد أو زيت الورد. ويبلغ متوسّط الورد الطائفي المقطوف يوميّاً خلال الموسم حوالي 70 ألف وردة. وبفضل رائحته القويّة والمتميزة، يُستخدم ماء الورد أو زيته كعطر أو يضاف إلى العطور الفاخرة. ويتطلّب الأمر 40 ألف وردة لإنتاج قارورة واحدة تحتوي 10 غرامات من العطر، ويبلغ سعر الغرام الواحد 120 ريالاً سعوديّاً. ويُحسب زيت الورد بمعيار «التولة»، وهي قارورة تزن 10 غرامات، حيث تصل قيمة التولة الواحدة من زيت الورد السائل إلى 1200 ريال سعودي.
تُغلى أزهار الورد لمدّة تصل إلى 14 ساعة في أوعية تقطير محكمة الغلق، ويسع كلّ منها 1200 وردة و120 لتراً من الماء. ثمّ تُغلى مرّة أخرى لمدّة تتراوح بين 15 و30 دقيقة ليتصاعد بخار ماء الورد من وعاء التقطير إلى أنبوب يمتدّ إلى خزان تبريد لا تزيد درجة حرارته عن 20 إلى 35 درجة مئوية. حتّى ينتج عن هذه العمليّة 75 لتراً من الماء المُقطّر يتدّفق إلى ثلاثة أوعية زجاجيّة كبيرة. وتُقدّر قيمة سوق الورد الطائفي بـ35 مليون ريال سعودي. وهو الآن سلعة اقتصاديّة وطنيّة استراتيجيّة يندرج في الرؤية 2030، وتستثمر فيه الدولة عن طريق صندوق الاستثمارات العامّة لينمو و يزدهر.
علامة جمال في القصيدة المحليّة
ولأنّ الجمال متعدّد الأوجه، فإنّ استخدامات الورد الطائفي في عالم الجمال لا تعدّ ولا تحصى. فهو جميل بذاته ورقّته ورائحته في البيت أو الحدائق. ويعتبر ماء الورد الطائفي ذات تأثير مبرّد وملطّف للبشرة، كما له تأثيرات علاجيّة، نظراً لاحتوائه على الكثير من الفيتامينات. كما يستخدم كمعزّز للشهيّة إذ يستخدم بفضل رائحته الزكيّة كأحد التوابل التي تُضاف للمأكولات والحلويات. كما يُساعد في زيادة إفراز هرمون السعادة، ممّا يُعطي الشعور بالراحة والاسترخاء، نتيجة لتقليل النشاط العصبي المسؤول عن تراكم الإجهاد.
هكذا أصبح الورد الطائفي، أو كما يسمّى «ملك الورد» علامة جمال في القصيدة المحليّة، ولكن يبقى السؤال من هي ريم وادي ثقيف، سمراء المصيف ... هي بلا شك الطائف، متزيّنة بورودها ونداها وعبيرها، أحد أوجه جمال المملكة العربيّة السعوديّة.