التسامح مع الآخرين من أجلنا

نسامح من أجلنا

كلّما تعرفنا على أنفسنا أكثر وفهمنا دوافعنا وراقبنا حياتنا عن قرب كلّما أدركنا أنّ الاخفاقات في علاقاتنا ناتجة من أفكارنا ومشاعرنا وليس بالضرورة لها علاقة بالطرف الآخر. إلاّ أنّه قد يكون هذا الطرف استثار شيء موجود بداخلنا أصلاً، فاستجبنا لذلك بردة فعلنا. وفي المقابل وفي خضّم الحياة وتعقيداتها، قد نجد أنفسنا نحمل أعباء من الماضي، وتجارب مع الغير تراكمت، إمّا عبر كلمات قاسية، أو أفعال مؤذية، أو خيبات أمل. وفي معظم الأحوال قد يكون الشخص الذي أضرّنا يتصرّف بناءً على مخزونه هو من الأفكار المحدودة أو المشاعر المكبوتة وهي أيضاً في كثير من الأحيان ليس لها علاقة بنا أصلاً. والآن وبعد انتهاء الموقف، قد يكون هذا الشخص فارق هذه الأرض، أو غائباً عن حياتنا، أو ربّما هو قريب جداً منا، شخص نراه كلّ يوم، ولكننا نشعر بثقل العلاقة بيننا وبينه يومياً. السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: إلى متى ولماذا نسامح؟

الإعداد: مها خالد طيبة، مستشارة في الاستراتيجيّة والقيادة وجودة الحياة ومؤسسة شركة "رُمَّان"

التسامح ليس للآخرين، بل هو لنا. هو فعل ذاتي بحت، لا يعتمد على الطرف الآخر، ولا يتطّلب اعتذاراً منه أو اعترافاً بالخطأ. التسامح هو قرار نأخذه لتحرير أنفسنا من قيود الماضي، لنعيد بناء السلام الداخلي ولنفتح أبوابنا نحو حياة أكثر إشراقاً. عندما نسامح، نحن لا ننكر ما حدث أو نبرّر الأخطاء ولا نقلّل من قسوة الألم، بل نختار أن نحرّر أنفسنا منه ومن الشعور المرتبط بالتجربة. التسامح هو فعل شجاع ينبع من القلب القوي الناضج، وهو ليس اعترافاً للآخر بصواب أفعاله، بل هو انتصارنا على تلك المشاعر التي تسرق منّا بهجة الحاضر.

التسامح ليس تصرفاً ظاهرياً، بل هو حالة داخلية تُحدث تحوّلاً عميقاً فينا. التسامح خيار متاح من ضمن خيارات أخرى ثقيلة. فعندما نختار التسامح، نخلق مساحة جديدة في قلوبنا، مساحة تتّسع للسلام، وللنور، وللتجارب الجديدة التي تستحق أن تعيشها أرواحنا. هذه المساحة ليست للآخرين، بل هي لنا وحدنا. إنّها فرصة لنتنفّس بحريّة ونعيش حاضرنا بعيداً عن قيود الماضي وأشباحه.

ومن المعتقدات الخاطئة أنّ التسامح مرتبط بمواجهة الشخص الآخر، أو بالاعتذار -الذي قد لا يأتي أبداً- أو حتى محاولة فهم ما حدث. الحقيقة أنّ التسامح أعمق من ذلك، فهو لا يحتاج إلى حوار، ولا يتطلّب أن نغلق الأبواب القديمة بطريقة درامية ولا أن "نَنكُش" في الماضي ونجترّه. إنّه اختيار نتّخذه بعيداً عن أي تأثير خارجي وفي خصوصيّة تامة. كلّ ما نحتاج إليه هو إدراك أنّ مشاعر الغضب والحزن والألم والكراهية تثقلنا أكثر ممّا تؤذي الطرف الآخر، فنتقبل وجودها وأنّها أتت محبة لنا تحمينا من تفاقم الموقف، ثمّ نسمح لها بالرحيل إمّا من خلال التأمّل والتدبر أو التعبير عن الشعور السلبي بالكتابة أو البكاء مثلاً أو من خلال الجلسات مع المختصين. وأنا لا أزعم أنّ التسامح عملية هندسية سلسة وسريعة أو أنّها تحثّ بمنتهى البساطة وبخطوات واضحة، بل هي عملية تحتاج إلى الكثير من الصبر والرحمة مع أنفسنا وقد تحتاج إلى جلسات مطوّلة ومتكرّرة حتى نتشافى ونسامح، ولكنّني أعلم أنّ بعد هذه الرحلة الشاقة سيأتي النور وينقشع الظلام وسيرقص القلب من جديد.

في النهاية، التسامح ليس ضعفاً ولا تنازلاً، بل هو أعلى درجات القوة والحرية والشجاعة. عندما نغفر، نحن لا نفعل ذلك لإرضاء أحد، بل لنُرضي أنفسنا. نفعل ذلك من أجل راحتنا، من أجل شغفنا بالحياة، من أجل أن نصبح أكثر خفّة وبهجة. التسامح هو هديّة نمنحها لأنفسنا، لنعيش كما نستحق، بلا قيود ولا أوجاع عالقة في الذاكرة. نحن نسامح من أجلنا !

إقرئي أيضاً: 5 نصائح تزيد من طاقة الدماغ

 

 

 

 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث