"وما بينهما" بين الماضي والحاضر: تلاقي رائع للمعاني الإيمانيّة والفنّ والثقافات

زرت خلال السنوات الأخيرة العديد من المعارض الفنيّة حول العالم وكلٌّ منها ترك لديّ أثر مختلف، إلاّ أنّ زيارتي للنسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية في جدّة كانت مميّزة جدّاً. شعور أجد صعوبة في وصفه! فقد نجح القيّمون والقيّمات على هذه الفعاليّة بالجمع بين عمق المعاني الإيمانيّة والفنّ والثقافات المختلفة في مساحة لا يحدّها زمان ولا مكان. تستقطب النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية الذي تنظّمه مؤسسة بينالي الدرعية فنانين وفنانات من كلّ أنحاء العالم، إلى جانب الفنانين السعوديين. مع مشاركة أكثر من 30 مؤسسة رائدة من حول العالم من اندونيسيا إلى الفاتيكان على سبيل المثال لا الحصر وعرض تحف أثرية وقطع تاريخية وأعمالاً لأكثر من 30 فناناً بالإضافة إلى 29 عملاً فنياً جديداً بتكليف من مؤسسة بينالي الدرعية، نجد أنفسنا أمام حوار بين الماضي والحاضر لنستكشف عمق المعاني الإيمانيّة وأساليب التعبير عنها والاحتفاء بها عبر الإحساس والابتكار. وذلك في جوّ من التأمّل، فنحن في صالة الحجاج الغربية بمطار الملك عبدالعزيز الدولي في مدينة جدة! من هنا يمرّ ملايين الأشخاص سنويّاً من مختلف بقاع الأرض للصلاة والتأمّل. تقفين في هذا المكان وتشعرين بأهميّة رمزيّته خصوصاً أنّ البينالي يمنحك فرصة فريدة لرؤية قطع أثرية من المدينتين المقدستين مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة. فلأوّل مرّة على الإطلاق تعرض كسوة الكعبة المشرفة خارج مكة المكرمة، حيث يمكنك رؤية الكسوة التي ازدانت بها الكعبة المشرفة العام الماضي!

"البداية، المدار، المقتني، المظلّة، المكرّمة، المنوّرة، والمصلّى"، سبعة أقسام فريدة تتوزّع عبر خمس صالات عرض ومساحات خارجية تحتضن أكثر من 500 قطعة أثرية وأعمال فنية معاصرة. وقد عمل فريق واسع يشمل خبرات عديدة وعالميّة لتحقيق هذه الرؤية. وخلال جولتي في أجنحة البينالي، تسنّى لي التّحدّث إلى عدد من القيّمين على المعرض وإلى فنّانين يعرضون أعمالهم فيه. في هذه السطور أتعمّق معك أكثر بكلّ ما يميّز النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية التي تستمرّ حتى 25 مايو المقبل.

التصوير: Marco Cappelletti, courtesy of the Diriyah Biennale Foundation. 

منصة مركزية عالميّة للفنون الإسلامية

"يلبّي البينالي احتياجات الجميع. فحتى الشخص الذي ليس لديه أي ميل للفنون الإسلامية سيأتي ويكتشف شيئاً رائعاً ويختبر القدرة على التعرّف إلى مثقّفين ومفكّرين وحرفيّين مذهلين يستخدمون أيديهم وعقولهم بشكل دقيق لصياغة أساس ثقافتنا. والهدف من ذلك هو توحيد الناس"، أبدأ معك بهذه العبارات التي شاركتني إيّاها ماسة الكتبي، مديرة معرض المدار. ففيما قد يتساءل الأشخاص غير المطّلعون على الفنون الإسلاميّة، عمّا يوضع في خانة هذه الفنون ويبحثون عن وضع إطار لها لفهمها، إلاّ أنّ ردّ الفنان السعودي مهند شونو وهو القيّم الفنيّ لأعمال الفنّ المعاصر على سؤالنا هذا يعبّر بشكل كبير عن هدف هذا البينالي. فيقول: "نحن لا نعرف ما هي الفنون الإسلامية على حقيقتها، وندعو الناس هنا لتشكيلها بطريقة جماعية. لا يمكن للفنون الإسلامية أن تتواجد في فراغ وفي فضاء بمفردها في حوار مع ذاتها، فهي تحتاج إلى فكرة الثقافات والعلوم والاكتشافات التي تجتمع كلّها لتحاورها وتساعد في تشكيلها. ونحن لم نعد محصورين في ثنائية الأشياء، بين حدود السماء والأرض، والظلام والنور، والخير والشر، لم نعد نهتمّ بكلّ هذه القيود في الحوار. فنحن الآن نفتح المجال لما هو انتقالي، لما هو متّسع ومتعدّد الطبقات، ولمساحة شاملة. ويتجلّى ذلك حتى في سينوغرافيا أجنحة "البداية" و"المدار" و"المقتني" حيث أنّ حواف الجدران في تلك المساحات تكاد تكون غير موجودة. وكان هذا مقصوداً، لعكس هذه الفكرة عن الفضاء الذي لم يستقرّ بعد في حدود معمارية واضحة." فيما يتناول مهند شونو في أعماله معاني روحانيّة، ودور الخيال في تشكيل الواقع، لم يتطرّق سابقاً إلى الفنّ الإسلامي، فسألناه عن العلاقة بين خلفيّته ودوره كقيّم فنيّ لأعمال الفنّ المعاصر. يشرح لنا: "من خلال عملي كنت أعالج مفاهيم الروحانية بالطريقة التي أريدها بدون اتّباع ذلك الأسلوب الوصفي التقليدي لفهم الروحانية والإيمان وما وراءهما. عندما دُعيت لأكون قيماً على هذا البينالي، لم أتردّد ولم أفكّر بأنني أخوض دوراً مختلفاً، بل كان ذلك استمرارية طبيعية، وأضاف لي مساحة أكبر للتعبير عن الأمور نفسها التي كانت توجّه أعمالي. إنّه بينالي الفنون الإسلامية، بصيغة الجمع، وليس بينالي الفنّ الإسلامي. نحن ندعو إلى مدينة جدة الساحلية الطرق الجماعية لرؤية المجتمعات حيث يمكن تخيّل طرق جديدة للقراءة، وإعادة القراءة والتفسير. ويتماشى هذا الحوار بين الحضارات والأزمنة والناس مع جزء كبير من عملي واستكشافي للروحانيات ودورها في تشكيل مصيرنا الجماعي."

أمّا الدكتور جوليان رابي، الباحث المرموق والمحاضر السابق في الفنّ الإسلامي والعمارة الإسلامية في جامعة Oxford، وهو أحد المدراء الفنيين المشرفين على البينالي، فيتحدّث عن إعادة الإسلام إلى الفنون الإسلامية. ويقول: "نحن ننظر إلى التطوّر الانتقالي للأفكار وأشعر أنّ هذا مزيج مدهش، ثمّ نراه ينعكس هنا مع لوحات رسمها فنّان هندوسي في الهند. فنجمع بين المؤسسات المختلفة لتشمل على سبيل المثال الفاتيكان وبالي في إندونيسيا. ونربط بالتالي بين المؤسسات والبلدان التي قد لا يكون لها علاقة سابقة."

من جهتها ماسة الكتبي، مديرة معرض المدار، تضيف: "تشمل الفنون الإسلامية الكثير من الأمور المختلفة التي يمكن أن تكون جزءاً من ممارسة طقوس يومية بسيطة مثل سجادة الصلاة أو السبحة أو غيرها، ويمكن أن تكون شيئاً بالغ العمق والأهمية مثل الكسوة الشريفة، ومن هنا تأتي أهميّة ربط الماضي بالحاضر. فلكي نتمكّن من فهم عالمنا اليوم علينا أن ننظر إلى الماضي. إذ إنّ الماضي يغذّي الحاضر، وهذا ما فعلناه نحن، والآن نقدّم بعض الأعمال المدهشة حقاً في هذه المعارض، لنرى تأثير ذلك على طريقة تفكير الناس وننظر في إمكانية دفع حدود زوّارنا. "

التعاون لربط الماضي والحاضر

توسّع النسخة الثانية من البينالي وضمّها عدداً أكبر من الأعمال الفنية المعاصرة، ومشاركات أوسع من المؤسسات، هو تأكيد على مكانة البينالي كمنصة مركزية عالمية للفنون الإسلامية. حيث يجمع أعمالاً مُعارة من أبرز المؤسسات العالمية المتخصصة في الفنون الإسلامية بالإضافة إلى مؤسسات ومتاحف عالميّة أخرى. حيث بتنا أمام تعاون وتلاقي وحوار بين الماضي والحاضر. "يشكّل البينالي حواراً بين الأزمنة، وفيه تُكتشف العلاقات بين الأعمال، وتشكَّل الروابط بين المؤسّسات، ما يتيح معرفة طريقة تداخل ممارساتها وأفكارها وربط التجارب التي تختبرها هنا"، يؤكّد مهند شونو. ويضيف: "كلّ القطع التاريخية من الماضي ابتكرها فنّانون باستخدام تقنيات معاصرة لزمانهم. وقد اخترنا الحفاظ على تلك الأعمال وترميمها عند الحاجة، فقد كانت تجسّد نوعاً من الأفكار القصصية والجدول الزمني. والآن يجب أن تكون الأعمال المعاصرة مع الفنّانين والتقنيات الجديدة بمثابة حلقة وصل تربط الماضي برؤى وتصوّرات المستقبل. إذا اخترنا أن ننسى هذه الأعمال التاريخية وما تعنيه، فإنّنا نبتعد أيضاً عن الإبداع المعاصر ونقطع هذا التسلسل الزمني ونفقد رابطاً لا يمكن استعادته. هناك ضرورة ملحّة لهذا الربط المعاصر الذي يتشكّل في هذه اللحظة لأنّه غائب منذ زمن طويل. نحن نربط الماضي برؤى المستقبل." وتتابع ماسة الكتبي: "البينالي هو احتفال بجميع الأصوات التي كنّا نتحاور معها. نحن نحتفل بتعاوننا، ورؤية الناس يكتشفون ما قمنا به هنا ويشاهدون كلّ هذه القطع الرائعة، هي أكبر مكافأة!"

Nour Jaouda, Islamic Arts Biennale 2025

مكان جامع ومنفتح على العالم بأسره

تحمل صالة الحجاج الغربيّة في مطار الملك عبدالعزيز الدولي ذكريات ومشاعر ملايين الحجاج الذين مرّوا عبرها لأداء مناسك الحج والعمرة. لهذا المكان الذي يستضيف البينالي رمزيّة كبيرة! ويؤكّد الدكتور جوليان رابي: "نحن في مكان مميّز جداً لأنّنا في أحد المعالم المذهلة للعمارة في أواخر القرن العشرين. هناك ديناميكية بين الروابط التي تجمع هذا المكان من جهة والروابط الأخرى من جهة أخرى. نحن نبعد 93 كيلومتراً عن مكان ولادة الإسلام ولكننا في الوقت نفسه نقع بجوار جدّة. وعلى عكس نظرة الناس إلى المملكة العربية السعودية في كثير من الأحيان كمملكة منغلقة، قد تكون جدة من أكثر المدن العالمية التي يأتي إليها الجميع من كافة أنحاء العالم، وغالباً ما يتركون مساهماتهم فيها ويبقون للإقامة فيها أيضاً." كما تشير ماسة الكتبي، مديرة معرض المدار في الإطار عينه: " لا يتعلّق الأمر بالمعارض فقط بل بالأجواء أيضاً، فقد شعرت بروح الحجاج الذين كانوا يأتون ويلتقون هنا من جميع مناحي الحياة في الطريق نحو التنوير عبر عقود من الزمن. أعتقد أنّ هذه تجربة رائعة في مساري المهني، لقد عملت في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا ولكن هناك دائماً شيء مؤثّر جداً في العمل هنا."

أساس قوي لمفهوم الروحانيّة

"وما بينهما" آية من القرآن الكريم تعبّر عن عظمة خلق الله كما يدركها الإنسان ويستشعرها. وتؤكّد ماسة الكتبي، مديرة معرض المدار في هذا الإطار: "عندما أفكّر في موضوع البينالي "وما بينهما"، أجد أنّه دقيق جداً. فإنّ مفهوم الروحانية شخصي وأعتقد أيضاً أنّ الحصول على فرصة لرؤية بعض هذه القطع الرائعة بينما هناك دائماً علاقة شخصية وتفسير خاصّ لها، يساعدنا على البقاء متجذّرين في هويتنا. أعتقد أنّه يجب علينا أن نتذكّر أنه في هذا العالم المليء بالتحديات، من المهمّ أن نحافظ على صوتنا وأن نتذكّر فكرة الروحانية ومفهومها، ولماذا هي جزء لا يتجزأ من الطريقة التي نعيش بها حياتنا، سواء كانت خفية أو ظاهرة فهناك دائماً أساس قوي لمفهوم الروحانية". أمّا الدكتور جوليان رابي فيؤكّد: "أعتقد أنّ ما نقدّمه هنا هو شيء يترك أثراً على المستوى العاطفي." وفيما يستذكر تأثّر إحدى السيدات أثناء تجوّلها في الأجنحة المختلفة، يتابع: "عندما يتأثّر المرء، تدوم هذه الذكريات لفترة طويلة جداً وهذه هي قوّة المعرض في تحقيق ذلك. هناك شيء مميّز يتعلّق بالتواجد في الفضاء المادي الذي يحيط بك، ولا أعتقد أنّنا نستخدم ذلك في كثير من الأحيان، فأظنّ أنّه في معظم المعارض، يحبّ الناس تعريف أنفسهم بالمكعّب الأبيض الذي تحدّده الهندسة المعمارية للمتحف، لكن هنا لا يوجد إحساس بالحدود، إنّها مساحة يمكننا داخلها خلق مساحات لتعزيز تجربة الزوار وخلق إحساس وتجربة حسيّة راقية".

Takashi Kuribayashi, Islamic Arts Biennale 2025

بالإضافة إلى هذا الحوار التاريخي الغنيّ، يقدّم البينالي برنامجاً ثقافياً يتضمّن سلسلة من الفعاليات التي تقام طوال فترة المعرض، تشمل محاضرات، وورش عمل، ومبادرات مجتمعيّة، وندوات. أنت مدعوّة للتفاعل مع أعمال فنيّة ووجهات نظر متنوّعة في الفنّ المعاصر تستكشف سعي الإنسان لفهم جمال وروعة ما أبدعه الخالق. فيما يتطلّع مهند شونو إلى حضور المزيد من الزوّار الذين سيأتون لزيارة البينالي رغم الصور النمطية والتصورات والروايات التي كانت سائدة في الماضي، ليختبروا تغييراً ملموساً فعلاً من قلب جدّة، تختتم ماسة الكتبي بالقول: "أحبّ أن أذكّر الجميع بأن هذا المعرض يستمرّ لمدة أربعة أشهر وهناك الكثير من الوقت للعودة إليه وتجربته والتفاعل معه".

العلامات: السعودية

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث