مذاق الألم يُعَلِّم!

فيما يستمرّ اللّبنانيّون بلملمة جراحهم للنّهوض من جديد بعد الكارثة التي حلّت بعاصمتهم يوم 4 أغسطس 2020، يلعب الفنّ والإبداع دوراً كبيراً في تجسيد وتخطّي الآثار النفسيّة لكارثة من هذا النوع . فقد قام فنّانون وفنّانات كثر في خلال الشهر الماضي بالتعبير كلّ على طريقته عن ألم بلد الأرز المتراكم الذي دوّى إلى أقصى حدود الأرض. فحاول كلّ شخص منهم تكريم بيروت وحثّها على الصمود والإستمراريّه من خلال موهبته وإبداعه الخاصّ. في ما يلي سنسلّط الضوء على مشروع إبداعيّ هو عبارة عن تمثيلٌ فنيّ جريء يجمع بيْن فنّ تصوير الطّعام والنّدوب التي حُفِرَت في جسد وفي نفس الكثيرين جرّاء انفجار مرفأ بيروت.  فقد تعاونت منصّة I am not a chef الممثّلة بشربل حرب المخرج الإبداعي والمصوّر المتخصّص في فنّ تصوير الطّعام مع منصّة Chady Barakat Photography الممثّلة بالمصوّر السينمائي شادي بركات لإطلاق مشروع "  Scars- لمّا طعم الوجع بعَلِّم" الإبداعي في لفتة تكرّم الضحايا والجرحى وكلّ من يحمل أثر من آثار ما حصل بتاريخ 4 أغسطس في بيروت. فما القصّة وراء هذا المشروع  وكيف اجتمع فنّ تصوير الطّعام بالتّعبير عن الجراح وتخطّيها؟

"لأنّ جراحنا كلبنانيّين لن تلتئم يوماً وأوجاعنا ستدوّي دوماً في ذاكرتنا، قرّرنا التّعبير!"، بهذه الكلمات يحدّد المخرج الإبداعي شربل حرب الدّافع الذي حثّه على تنظيم هذا المشروع الفنيّ. ويؤكّد : " لقد عانى كثيرون جرّاء هذه المأساة وبينهم أشخاصٌ مقرّبون إليّ، وهم اليوم لا يحملون فقط جراحاً جسديّة ظاهرة إنّما جراحاً نفسيّة مخفيّة ستكبر معهم. وهذه الجراح لن تختفي مع الوقت بل ستترك آثاراً وندوباً. وكلّ مرّة سننظر إليها ستذكّرنا بهذه الكارثة، فهي قطعة حيّة منّا ستعيش معنا". أمّا المصوّر السينمائي شادي بركات فيضيف: " لقد أصاب انفجار مرفأ بيروت جميع اللّبنانيّون بغض النظّر عن تواجدهم في المناطق المتضرّرة. وهذه أكثر مرّة يشهد فيها لبنان على هذا المقدار من الألم، فالجميع خسر قطعة من ذاته في ذلك اليوم. ولذلك السّكوت ممنوع، بل يجب التّعبير بشتّى الطرق عن هذه اللّحظات الأليمة التي طالت وغيّرت مجرى حياة شعب بأكمله. فهذا الحزن الذي نشعر به لا يمكن أن يبقى في داخلنا ويشعرنا بالإختناق، بل علينا أن نستعمل شغفنا للتّعبير عنه".

وهل أرقى من الفنّ كوسيلة لإطلاق العنان لكلّ ما يدورفي داخلنا! وكانت نتيجة هذا الشغف المشترك طريقة غير معهودة في التّعبير عمّا يخالج النّاس من أحاسيس ومشاعر مختلطة، إلاّ أنّها كانت الفضلى بالنسبة لحرب وبركات. فأرادا أن تصدح الرسالة وراء هذا العمل بوضوح وقوّة من خلال ما يتميّزان به!

ما علاقة الطّعام بآثار الجراح؟   

"بعد الإنفجار شعرت بالعجز أمام هول الفاجعة، فأردت أن أقوم بتفسير مشاعري تجاه هذا الجرح العاطفي والنفسي الكبير الذي ولد داخلي بالطريقة الأقرب إلى قلبي، أي عبر شغفي بتصوير الطّعام"، يشير حرب. وسرعان ما تحوّلت هذه المبادرة الفرديّة إلى جهد وتعاون جماعي، جمع متطوّعين من مجالات عدّة نذكر منها تأمين المعدّات الطبيّة اللاّزمة في التصوير وتصميم مكياج التّأثيرات الخاصّة. فانخرطوا جميعاً وعملوا سويّةً لأنّهم شعروا بالحاجة إلى التعبير وإيصال هذه رسالة مشتركة للعالم.

​ومن منطلق عمله في منصّة I am not a chef   ارتأى حرب أنّ العنصر الملموس الذي سينجح بتمثيل المفهوم الفنّي الذي يفكّر فيه هو الطّعام. فالطّعام هو عنصر حيّ وضروريّ للإستمراريّة في الحياة وتجديد خلايا الجسم. ومن هنا جاء هذا التّماثل بين هذيْن العالميْن: "عندما نصاب بجرح معيّن نفسي أو جسدي، نحاول الهروب منه ونسيانه ونعتقد أنّه سيختم سريعاً. ولكن على عكس ما يعتقده البعض لا يمكن التّخلص من هذا الجرح بسرعة. فمذاق الألم سيترك أثراً يعطينا شيئاً إضافيّاً في حياتنا ويعلّمنا كيف نعيش ونكبر مع هذا الجرح ونتخطّاه. كذلك فإنّ الثّمار أو الخضار عندما تنضج لا يُصار إلى التّخلّص منها بل يستهلكها الإنسان حتّى تعطيه الغذاء اللازم وتضيف شيئاً على حياته. ويفسّر لنا حرب في ما يلي شعار"لمّا طعم الوجع بعَلِّم" الذي اعتمده لهذه الحملة: "وقع الخيار على هذا الشعار لأنّ هذه الكارثة التي حلّت باللبنانيين كانت بمثابة طبق حُضّر على مدى سنوات قبل أن يتذوّقوه في هذا اليوم المشؤوم. وطعم هذه اللّحظات سيبقى محفوراً إلى الأبد كمعلم في أجسادهم ونفسهم." ويضيف": "كذلك من منظار آخر هذا الألم الذي ذاقه اللّبنانيّون سيعلّمهم أن يتحلّوا بالوعي بشكل أكبر عمّا يحدث حولهم وأن يتعلّموا من الأخطاء السابقة ويقوموا بالمحاسبة."

الفنّ في خدمة المجتمع

يشاركنا بركات بعضاً من خبرته في خلال التصوير: "بينما كنت أقوم بجلسات التصوير، كان الحماس يغمرني للنّتيجة التي نحصل عليْها، إلاّ أنّني في الوقت عيْنه كنت أتصوّر من خلال هذه المشاهد المبتكرة بعضاً من لحظات الإنفجار الحقيقيّة." من المؤكّد أنّ الفنّ هو علاج للنفوس ومحفّز للخيال من خلال مساعدته الإنسان على إطلاق العنان لمشاعره وأفكاره وإعطائه مساحة جديدة لفهم واقعه والتعبير عنه. فتستطيع الأعمال الفنيّة أن توثٌّق واقعاً معيّناً في حقبة معيّنة. ومن شأن هذا المشروع أن يترك أثراً أو على الأقلّ ذاكرة بصريّة لهذه الأحداث الأليمة. فهذه الآثار تمثّل المذاق المرّ الذي لفّ لبنان إلى جانب مشاعر اليأس والخراب التي عاشها اللّبنانيّون جميعاً. وهنا يبرز دور الفنّ في خدمة المجتمع عموماً والصحة النفسيّة خصوصاً عبر هذه الرسائل الهادفة. ويختم حرب: "لا أستطيع على صعيد شخصي ألاّ أتأثّر بما يصيب مجتمعي أو ألاّ أكون معنيّ به. فلا يمكن للفنّان بأيّ شكل من الأشكال أن يكون بعيداً عن مشاكل مجتمعه حتّى ولو لم تطاله بشكل مباشر، فهو يشعر بكلّ شيء بداخله."  

إقرئي أيضاً: Nayla Tueini: في أوج الألم لا مكان للإستسلام، فرسالة النهار أكملت منذ لحظة الإنفجار

 

 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث