برزت أماني كرائدةٍ في سماء الرقص وهي في ربيع شبابها، تماماً كحلم آسر يسحر الحواس، تقودنا برزانتها وجمالها ورقّتها إلى عالم الخيال. على مرّ السنين، وبعد مسيرة حافلة بالخبرات والإنجازات، تُوّجت أماني إمبراطورة الرقص الشرقي بلا منازع. فقد جسّدت الجمال الآسر لتعبيرات الروح، وكان حضورها يستحضر جاذبية رومانسيّة تذكّرنا بلوحات المستشرقين، بيدَ أنّ وقفتها كانت دائماً تنضح بالثقة والثبات. ومن لبنان، ارتقت أماني بالرقص الشرقي إلى قمّة الشهرة العالميّة خلال العصر الذهبي في التسعينات، حيث أعادت تعريفه ليصبح شكلاً من أشكال فنّ الأداء المسرحي. ولم تكتفِ أماني بتقديم فنٍّ راقٍ فحسب، بل ساهمت في إثراء ثقافة الرقص الشرقي ورفع مكانته، فخلّدت ذكراها من خلال أعمال فنيّة تنقل الجماهير إلى عوالم ساحرة تتخطى حدود الواقع.
التصوير: Lara Zankoul، الإدارة الفنيّة: Joe Challita، التنسيق: Jony Matta، المكياج: Sharbel Hasbany، الشعر: Rawad Khoury من فريق Sharbel Hasbany Beauty
يبدو أن القدر منح أماني اسماً يليق بها، فمنذ نعومة أظفارها، وجدت نفسها غارقة في عالم من الرؤى. لم تكن هذه مجرّد أفكار عابرة، بل كانت تصوّرات حية للرقصات وتصاميم الرقص الخلابة التي بدت وكأنها تنبع من خيالها.
ارتبطت هذه الرؤى بجذورها الثقافية، إذ تتذكر أماني: "في طفولتي، نما إلهامي من خلال مراقبتي الدقيقة لحركات والدتي الرشيقة؛ فقد كانت بمثابة مرشدتي الأولى بدون أن تدري. كما ساهمت نساء قريتنا، بمن فيهنّ جدتي، في تنمية حساسيتي الفنية. وفي وقت لاحق، ساهم سحر المسرح والسينما في إثراء موهبتي الإبداعية." ومن خلال هذه الفسيفساء من المؤثّرات، صُقلت هوية أماني كفنّانة، حيث يشكّلها تراث ثقافي عميق وخيالها الخصب.
تنحدر أماني من بلدة ساحلية خلابة تُدعى حامات، شمالي لبنان. ونشأت وسط الكتب والأدب الذي استحوذ على عقلها. فتتذكّر أماني قائلة: "في سنّ المراهقة، حلمتُ بالرقص الشرقي والعودة إلى التاريخ. كنتُ مولعةً بالقراءة عن العصر العباسي والأدب والموسيقى والموضة. كلّ هذا الإلهام جاء من دراستي ومن عشقي للعصور الغابرة، وهو ما جعلني أحلم بالعودة إليها من خلال الرقص، الذي نقلني من واقع إلى آخر."
بعد حصولها على شهادة في الدراسات الاجتماعية، شرعت أماني في رحلتها الفنية بعد أن اكتشفها الصحافي ورئيس التحرير الشهير، جورج ابراهيم الخوري، الذي رأى شيئاً مميزاً فيها. فعرّفها لاحقاً إلى شخصيات بارزة في الساحة الفنية. وساهم ذلك في إطلاق مسيرتها المهنية، فرافقت أماني واحداً من عمالقة الفنّ اللبناني، المغنّي والملحّن ملحم بركات. وهي تقول: "لقد علّمني أسرار المسرح، وكانت بعيدة عن الرقص بعض الشيء، لكنّه منحني رؤية ثاقبة حول بروتوكول العرض."
في بداية مسيرتها، لاحظت أماني فجوة كبيرة في مشهد الرقص الشرقي بعد الحرب، وتقول: "شعرت أنّ الرقص الشرقي فقد الكثير من خصائصه وجماله مع الوقت، وكنت أرى ذلك من خلال قراءاتي وأبحاثي".
وبعدما أدركت أن واقع ساحة الرقص يختلف عمّا كانت تتخيّله، زاد تصميمها على تحويل تصوّراتها من فترة الطفولة إلى حقيقة، "بدأتُ بترجمة أشكال فنية وخطوات وتصاميم رقص من قراءاتي وأدب الشرق القديم، وأدخلتها في قاموس الرقص الشرقي، وتعمّقتُ لاكتشاف المعنى الحقيقي للرقص."
"الرقص الشرقي لا يقتصر على الاهتزاز، بل له عمق وتاريخ وتراث يجب أن يُسلّط عليه الضوء."
وقد لاحظت أماني أن الكثير من الراقصات في ذلك الوقت كنّ مقيّدات بالخطوات وتصاميم الرقص، وخلصت إلى أنّ "الرقص الشرقي لا يقتصر على الاهتزاز، بل له عمق وتاريخ وتراث يجب أن يُسلّط عليه الضوء."
وبسبب انعدام التعليم الرسمي للرقص الشرقي وتسليعه وتقديم صورة سطحية عنه، تشجّعت أماني إلى التحرّك. ومع بزوغ فجر التسعينات، شهدت بيروت نهضة ما بعد الحرب، اتّسمت بالنمو الاقتصادي ومشهد اجتماعي حيويّ. وفي خضم هذه النهضة، ظهرت سلالة جديدة من قاعات الترفيه الفخمة، والتي كادت أن تطغى على المسارح التقليدية في الأهمية الثقافية.
اغتنمت أماني الفرصة، وانطلقت مسيرتها المهنية في قاعات الترفيه الفاخرة، حيث كشفت عن سلسلة عروض تحت عنوان Histoire وذلك بين عامَي 1993 و 1996. أسرت هذه العروض الجماهير بطابعها السردي الرائع الذي يميّزها عن العروض المعتادة. وكانت تصاميم الرقص التي ابتكرتها أماني مشبعة بالقصص والشخصيات والمواضيع التاريخية، لتملأ فراغاً في مشهد الرقص الشرقي. وتلبيةً للأذواق الرفيعة لدى الجمهور المثقّف، كان هناك طلب وتقدير متزايد للفنّ الراقي، ممّا دفع إلى تحوّل كبير في مسيرة أماني المهنيّة، حيث انتقلت من الأجواء النابضة بالحياة في قاعات الترفيه الفخمة إلى عالم المسرح الهائل.
وصلت أماني إلى ذروة جديدة في النجومية عندما تعاونت مع المخرج المسرحي Gerard Avedissian، وهو شخصية بارزة ارتقت بمسيرتها المهنية إلى مستويات غير مسبوقة. وفي مقابلة تلفزيونية مع الصحفية نسرين نصر، أكّد Gerard على تأثير تعاونهما، قائلاً: "كانت أماني فعلاً محترفة متمرّسة ومهيأة وجاهزة. وقد قدّمتُ لها المنصة لترتقي بفنّها إلى آفاق جديدة من خلال المسرح. لم نشهد راقصة شرقية تزيّن المسرح بهذه الجرأة والجودة منذ أيام نادية جمال في السبعينات."
ومن خلال عروض مسرحية متعدّدة منذ العام 1999 مع Avedissian، مثل "أماني حول العالم" و "ليالي الحب"، حظيت أماني بجمهور أوسع، بما في ذلك عشّاق المسرح المميّزين وأفراد المجتمع الراقي. "تمكنتُ من تطوير مسرح راقص بلوحات أكثر تطوراً ممّا كان يُعرَض سابقاً، برفقة موسيقيّين وفرقة رقص."
I refuse to be called a ‘Belly Dancer’! I am a dancer of Raqs AL Sharqi!
وبينما كانت عروضها تأسر الجماهير، سرعان ما وقعت الصحافة تحت تأثير أماني الساحر وأطلقت عليها ألقاباً مثل "الراقصة المثقّفة" أو "ملاك الرقص". فظهرت أماني كشخصية بارزة ارتقت بالرقص الشرقي إلى مصاف الفنون المحترمة مثل الباليه والفلامنكو. وقد عزّز أسلوبها المميّز الذي يتّسم بحركات رشيقة وأزياء فاخرة مصمّمة على الطلب من قبل مصممين لبنانيّين، من سحرها. أصبحت تُعرف بالراقصة التي أضفت على الرقص الشرقي طابعاً لبنانياً فريداً، ونُسبت لها تسمية "الأسلوب اللبناني في الرقص الشرقي" في الأوساط الإعلامية. وكانت أماني أوّل راقصة تتعاون مع كبار الملحّنين والموسيقيّين مثل إلياس الرحباني وإيلي شويري وعلي رضا وغيرهم الكثير ممّن كتبوا موسيقى خاصّة لها. وفي العام 1992، كانت أوّل راقصة تقدّم فيديو مصوّر لرقصها على أغنية "بص بص أماني" التي كتبها لها الموسيقار والملحّن اللبناني باسم يزبك.
ومن هذه المحطّة المحوريّة، حلّقت أماني إلى آفاق غير مسبوقة، وبالرغم من سنوات النجاح الباهر، إلّا أنها تبقى من أشدّ المدافعين عن الارتقاء المستمرّ بسمعة الرقص الشرقي. وتعبّر أماني عن خيبة أملها من الوضع الحالي، إذ تأسف على قلّة فنّانات الرقص الشرقي الأصيلات والبارعات. وتتأمّل قائلةً: "أصبح الاستثمار في الفنون من أجل الربح التجاري فقط هو المعيار السائد. ومع ذلك، فإن الأناقة والرقي الحقيقيّين هما اللذان يتمسّك بهما أولئك الذين يستثمرون في السعي وراء التعبير الفني الخالص وتكريم إرث هذا الفنّ وهدفه الجوهري."
وأعربت أماني بشدّة عن خيبة أملها، لا سيما فيما يتعلّق بالتصنيف الغربي للرقص الشرقي على أنه“Belly Dance” ما يُترجم حرفياً بـ"رقص البطن". فعلّقت قائلة: "إن عبارة Belly Dance هي أكثر مصطلح مهين يمكن أن يُنسب إلى مثل هذا الفنّ الراقي. فإن اختصار التعبير الثقافي الغني للرقص الشرقي في مجرّد التركيز على البطن هو أمر مسيء وغير دقيق. فيشمل الرقص الشرقي أكثر بكثير من مجرّد حركات البطن."
وأكّدت أماني على التأثير الكبير الذي يمكن أن يحدثه المصطلح على تصوّرات الناس ومواقفهم تجاه مهنة ما. وخلال مؤتمر مع اليونسكو عبر الفيديو عام 2022، عمدت أماني إلى المقارنة بين المصطلحات وكيف تؤثر على وجهات النظر الثقافية، مشيرةً إلى الباليه كمثال. وصرّحت قائلة: "خذوا مثلاً الباليه، حيث يرقص الراقصون برشاقة على أطراف أصابعهم، ومع ذلك لا يشار إليه على أنّه "رقص الأصابع". إن كلمة "باليه" التي تأتي من الكلمة الفرنسية Bal، تستحضر صور العظمة والأناقة والجمال. وعلى نحو مماثل، يجسّد الرقص اللاتيني ثقافة وحيوية مجتمعات بأكملها. وفي تباين واضح، يفتقر مصطلح Belly Dance إلى العمق والكرامة اللائقة لرقصة لها تراث ثقافي يمتد لآلاف السنين. يدور الفنّ حول الجمال والأناقة، إلّا أن هذا المصطلح يجرّد الرقص من جوهره."
وأكّدت أماني بشدة على رفضها لقب Belly Dancer أو "راقصة بطن"، مشدّدةً على هويتها كراقصة شرقية للرقص الشرقي. وأوضحت قائلة: "نحن نستخدم جسدنا بأكمله في هذا الفنّ. فتلعب أذرعنا وخصورنا ورؤوسنا وأقدامنا جميعها أدواراً أساسيّة. لا نركّز ببساطة على البطن، بل نحرّك أسفل البطن والوركين أيضاً. وفي اللغة العربية، نشير إلى "الخصر" بأسلوب فصيح. لذلك، أرفض أن أحصر بلقب "راقصة بطن". أنا الراقصة اللبنانية الشرقية، أماني!!"
وكما نقلنا رقصها إلى عوالم أخرى وعصور غابرة، فإن كلمات أماني وحكمتها تلمع كالجواهر – فهي قيّمة وحادّة ومستندة إلى مراجع موثوقة. ولا عجب أن أطلق عليها لقب "الراقصة المثقّفة" من قبل أول صحفيّ اكتشف مواهبها المتميّزة منذ أن كانت في سنّ المراهقة.